سؤال العمل المدني خلال وبعد “كورونا” – الحبيب عكي
لا شك أن المجتمع المدني بمختلف هيئاته وتجلياته، قد تضرر بشكل كبير وفظيع جراء جائحة “كورونا” المستجد، ضررا مزدوجا جانب منه يرتبط به ارتباطا ذاتيا وتواضع تجربته خلال الأزمات والكوارث، وجانب آخر يرتبط بمختلف القطاعات التي ينشطها والفضاءات التي يشتغل فيها، والصدمة الأولى والفجائية التي فرضت عليها بمقتضى الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي الدخول في ركود، وفرضت على هذا المجتمع توقيف كل أنشطته الجماعية من محاضرات وأمسيات ومهرجانات ورحلات ودورات ودوريات..، وثانيا، باعتبار عشرات الآلاف من الجمعيات (أزيد من 160 ألف جمعية)، جلها في ظل الأزمة علقت أنشطتها ولم تستطع المشاركة البتة، أو ساهمت فقط مساهمة محتشمة إن استطاعت ووجدت إلى ذلك سبيلا. مما جعل المجتمع يستغرب للأمر ويتساءل عن حقيقة هذه الجمعيات وحقيقة من تسلط عليها، وكيف تخلت عن المجتمع في هذه الظروف الحالكة كغيرها من السياسيين والنقابيين والمثقفين والفنانين والرياضيين..، وبأي وجه سيخاطبونه غدا وهم الذين استدفئوا – حسب اعتقادهم – حجرهم “مختفون” خلال الأزمة الكارثة؟؟
ولكن، بعد استيعاب الصدمة، وتطور الأزمة، وقوة النداء الوطني، والواجب التضامني والإجماع الإنساني، بدا الفاعلون المدنيون يستيقظون ويشحذون أفكارهم الخلاقة ويحرضون جنودهم التواقة إلى المساعدة في محاربة الوباء، ورفع البلاء، ومحاصرة الغلاء، والتخفيف من العناء، حتى يعم الفرح والسرور والهناء، لكن فيروس “كورونا” المستجد “كوفيد 19” رغم حقارته وعدم رؤيته فقد كان لهم بالمرصاد وأبى ببشاعته إلا البحث عن جسد حي أي جسد يهلكه ليحيا، وقلب بذلك الموازين في وجه الجميع قبل أوامر الحجر الصحي وتعليمات الالتزام به، وهكذا أصبحت الساحة غير الساحة، والعمل غير العمل، والقوانين غير القوانين، والضجر والخوف والملل والترقب هو الضجر والخوف والملل والترقب. فكيف يستطيع هؤلاء الفاعلون المدنيون العمل في هذه الظروف العصيبة؟ أو حتى يستشرفوا أفق عملهم المستقبلي بعد انكشاف الغمة عن الأمة بإذن الله؟؟ ما هي التحديات المدنية المستجدة في ظل هذا “الكوفيد 19” المستجد؟وما هو الموضوعي منها وما هو الذاتي؟؟
الحياة مستمرة على كل حال بإذن الله وجهد الأطقم البشرية المجاهدة لحمايتها مشكورة، والعمل المدني كذلك سيستمر وبشكل أقوى لأنه لا أحد يقرر في مصيره غيره هو وهو بالذات،وقد يتراجع إلى الوراء خطوة ليثب إلى الأمام خطوات و يتعثر لينهض ويتشكل ليستمر بكل أشكال الحياة، فقط حتى لا ينحرف العمل المدني عن مساره المنتج،وحتى لا يتوقف كما بينت “كورونا” عن مداره المواكب، لابد من استحضار جملة من التحديات الواقعية والعمل على رفعها وجملة من المستجدات القاهرة والعمل على اعتبارها وجملة من الأسئلة الملحة والإشكالات العميقة والعمل على حلها، ومن أجل ذلك لابد من:
1 – تجديد الرؤية:
وهي المؤطرة لكل فعل سديد و راشد أو بائد وكاسد، وينبغي أن يكون تجديد هذه الرؤية من طرف الجميع نحو عمل مدني راشد ورائد، فالفاعل المدني يطرح عليه السؤال في عمله المدني: هل هو مع أو ضد؟ ائتلافي أو اختلافي مع السلطة ومع غيرها من الأحزاب والجمعيات أم ضدها؟ أم مع وضد في نفس الوقت بحيث يقول لمن أحسن أحسنت ويسانده، ويقول لمن أساء أسأت وينتقده؟؟ والسلطة في حد ذاتها يطرح عليها السؤال: هل تؤمن بتعدد السلط والمقاربة التشاركية مع المجتمع المدني.. وما مساطر ذلك وأوجه أجرأته؟ أم هي ذات طابع شمولي استفرادي بكل شيء وإن تعددت القوانين والمذكرات والبروتوكولات وتعددت، فهي كما يقول المثل سلطة وتظل سلطة ولو طارت سلطة – حالة الطوارئ نموذجا – وما كان ينبغي أن يحصل فيها من التعاون والتشارك ولم يحصل، أو على الأصح بالقدر الكافي؟؟ وللجمعيات وغيرها من الفاعلين أيضا سؤال: أي معنى تعطونه للتعاون والتراكم في غياب أية مبادرات وبروتوكولات ميدانية في هذا الاتجاه،أو نذرتها بشكل مخل؟؟ فالرؤية الرؤية، فهي كل شيء وعليها يبنى كل شيء.
2 – تجديد التكوين والتأهيل:
لقد توقفت الحياة الطبيعية خلال أزمة “كورونا” العصيبة، إلا من بعض مظاهرها الافتراضية وعن بعد، لم يكن يفعل فيها في ظل الحجر الصحي إلا المستأنسون بعالم الديجيتال..العارفون بالحاسوب والإنترنيت والمدمنون على الهواتف الذكية والتطبيقات وشبكات التواصل الاجتماعي. وبينما كان المدنيون التقليديون العاجزون يتدورون نوما على مراقدهم وانتظارا في منازلهم، يتذمرون مما فعلت بهم “كورونا” وأخبارها القاتمة تكاد تقتلهم، فإن غيرهم من عفاريت الديجتال كانوا ينشطون عبر وسائلهم الافتراضية بكل حماسة و قمة عطاء،..وصلات تحسيسية..ندوات توعوية.. حلقات نقاشية.. دورات تكوينية..مبادرات فنية..تداريب رياضية..بل حتى حملات تضامنية وإسعافية للمحتاجين عن بعد،دون خرق القانون ودون متاهة الإشعار والترخيص كان معهم السيد القائد والباشا أو ضدهم. ومن يدري، ربما كان هذا مؤشر على انتهاء العهد الورقي مهما مطط في عمره الممططون، ومؤشر على تراجع العمل الحضوري، وكثافة التنقلات وإرهاق الخدمات وإكراه الإقامات. فماذا أعدت الجمعيات من تكوينات لأطرها وروادها ومستهدفيها في هذا الإطار؟،وماذا لديها من برامج ومشاريع قابلة للإنجاز في هذا الاتجاه.
3 – تجديد الاهتمامات والتركيز على الالتقائية:
لقد تطورت تدخلات المجتمع المدني عبر التاريخ من العمل الإحساني التلقائي الوقفي والأهلي، إلى خدمات القرب المنظمة و ملء فراغ الدولة اتجاه الفئات الهشة، إلى التوجيه والإرشاد والمساعدة بالشراكة والتعاون مع الدولة، إلى القوة الاقتراحية والترافع الحقوقي ضد الدولة. ترى ماذا بقي أو سيبقى ذي جدوى خلال وبعد “كورونا”؟ ماذا سيسعفنا في معالجة الاختلالات المجتمعية الخطيرة والمطبات الكبرى التي عرتها جائحة “كورونا”، كظاهرة شيوع الفقر والهشاشة والبطالة والبطالة المقنعة؟ غياب قاعدة بيانات اجتماعية على غرار البيانات الأمنية للمواطن؟ ريع وتبذير المال العام في تشجيع السطحية الإعلامية والتفاهة الفنية المدمرة على حساب أولويات الصحة والتعليم والشغل والسكن والتربية المواطنة والثقافة العلمية والأدبية والقيم الإنسانية الكونية؟
وخلال تدبير أزمة “كورونا” ذاتها، كان بإمكان المجتمع المدني والجمعيات ذات الصلة أن تكون نشيطة أكثر وأكثر، على الأقل فيما هي خبيرة به و تتقنه، من أدوارها الوقائية كالتحسيس والتوعية، وأدوارها الميدانية كالمساعدة في التنظيم والنظافة والتوزيع، وأدوارها التواصلية والتكوينية عن بعد كالمنصات الترفيهية والتنشيط الافتراضي السكوني والتساكني للأسر والأطفال، في أدوارها التشاركية بمقترحات عملية في مراجعة وتعديل ميزانيات المجالس، بل وحتى أدوارها الرقابية والتفقدية كإعداد تقارير الحالات الاجتماعية في الأحياء،و مراقبة حالات التهافت على المؤن وبعض التجاوزات الحقوقية ممن كانت..، وكل هذا كان فقط بشكل محدود، فمن فوت كل هذه المساهمات الخيرة على المجتمع، وها هي “حركة مبادرات من أجل إصلاح المنظومة القانونية للجمعيات بالمغرب”- كما جاء في الصحافة – توجه نداء بتوقع أزيد من ألف جمعية إلى رئيس الحكومة تدعوه فيها إلى الإشراك الفعلي للمجتمع المدني في صناعة القرار وتمكينه من أداء أدوار أكثر فعالية في الأزمات وما بعدها، باعتماد عدد من الإصلاحات المستعجلة، فالمجتمع المدني شريك في الصيف والرخاء كما في الضيق والشتاء، وعلى أي، للخروج من هذه المنعطفات الخطيرة والمتاهات هذه بعض المقترحات:
1 – ضرورة فتح حوار وطني واسع حول مخاض الأزمة وتداعياتها، بين كل الفعاليات الرسمية والسياسية والمدنية وغيرها،في جو من الثقة والمسؤولية، تعزز مخرجاته مقترحات النموذج التنموي الجديد.
2 – ضرورة الترافع القوي والجاد وضغط مدني وازن ومتزن بكل الأشكال القانونية والمجتمعية المتاحة، ضد كل مظاهر الفقر والهشاشة والنيل من حقوق المستضعفين.
3 – تفعيل المقاربة التشاركية وفق الدستور، وتبسيط مساطر تكامل التمثيليات والسلط وتعاونها، بعدما أكدت “كورونا” للجميع أننــــا في سفينة واحدة على حد قولهم.
4 – اعتماد الالتقائية بين الفاعلين وبشكل إجرائي وعلى برامج ومؤشرات واضحة، فجهود التنمية المستدامة والعدالة المجالية تستوعب وتحتاج مســـــاهمة الجميع.
5 – انتظام هيئات وفعاليات المجتمع المدني في روابط وائتلافات تصنف الإمدادات وتحدد الامتدادات، حتى يسهل استثمار الموجــود واستدراك المفقود،وبلورة الممكن من مشاريع وشراكات تنمية الشأن المحلي و الجهوي والوطني في جو من الثقة والمسؤولية والقوة الاقتراحية والتعاون والاستقلال.
6 – إعادة النظر في أشكال التدخلات الاجتماعية المعاصرة ومساطرها المعقدة وهواجسها الأمنية، بما لا يطلق الحبل على الغارب، ولا يحرم المجتمع مما ألفه الناس من التدخلات الفطرية والتلقائية والمجدية خلال الأزمات، فلا يعقل أن يسمح بقوافل المساعدات لهيئة معينة وجمع التبرعات بالملايين على الهواء، ويطلب ترخيصا بالإحسان العمومي من مواطن أراد أن يكرم محتــــاجين بمجرد “عباسية” أو لباس مستعمل.
7 – تغيير بوصلة الاهتمامات والتدخلات المدنية أو توجيه اللازم منها إلى واجب الوقت و ظواهر الأحياء والمؤسسات، آن الأوان أن يتخصص بعض المجتمع المدني في بناء وتجهيز المدارس والمستشفيات أو المركبات التربوية والاجتماعية المتكاملة،تماما كما تبني بعض جمعيات المحسنين مساجد عامرة وتجهزها وتسهر على قيميها، وفي تراثنا الوقفي الإسلامي وتجارب الدول الأخرى والغيورين من جاليتنا في الخارج ما صنع المعجزات في بلدانهم وبواديهم.
8 – وجوب تثبيت كل هذا الإبداع المغربي الإيجابي الذي غطا المجتمع خلال الجائحة،والذي كشف عن المعدن الأصيل للمواطن المغربي رغم عقود من محاولة التزييف والتسطيح والاستلاب، أولا، بدعم الروح الوطنية العالية التي أبان عنها الجميع، والوحدة والائتلاف والتعاون بين المواطن ومختلف السلطات والدولة والمجتمع، وثانيا، بالانخراط في الترافع الوطني حول ضرورة إعطاء الأولوية لقطاعات الصحة والتعليم والتشغيل والسكن، والرفع من مكانة الأستاذ والطبيب والباحث والعالم والمسؤول بدل غيرهم من نجوم الأدلجة والتفاهة والفراغ، ثالثا،بتعزيز كل أشكال التضامن الاجتماعي القوي والتلقائي، والدفع في اتجاه إخراج السجل الاجتماعي للمواطن، ودعم صندوق تدبير الجائحة “1919” دون أسماء ولا مسميات ولا كاميرات، ولما لا استدامته بإحياء صندوق الزكاة أو صندوق التضامن الوطني، خاصة وأن الحاجة جد مرتفعة أكثر مما نتصور، وتحتاج إلى مبادرات جماعية ومستدامة تتخلص إلى حد ما من القيود المفرطة، كما حكا لي أحدهم اليوم أنه :”لأول مرة وجدت أمامي حشدا من المحتاجين فتصدقت عليهم بسخاء وأخذت لهم عند البقال “عباسيات” لم أعد فيها إلى إشعار السيد الباشا ولا رخصة الإحسان العمومي من السيد الوالي”، ورابعا، بنقل هذه الإيجابية البناءة – كما قال أحدهم – من رد الفعل والتظاهر بالتغيير تحت وطأة الأزمة، إلى استنباتها في حقول التغيير والبناء الحقيقي والتي هي البيت والمدرسة والجمعية والجامع.
9 – الاجتهاد الفوري والثوري في الترسانة القانونية في هذا الاتجاه الذي يرفع القيود المجانية على الفاعل المدني، وييسر وصول الخدمات إلى الفئات المجتمعية المحتاجة، فما تردت حالة العديد من مستشفياتنا ومؤسساتنا التعليمية إلا بغلق أبوابها -عمليا- في وجه الفاعل المدني وحرمانها من خدماته التطوعية التنظيمية وتكويناته التربوية. ولا معنى بعد “كورونا” أن نظل نرى مثلا قاعة أو منحة أو شراكة عمومية تمنح لجمعية وتحرم منها أخرى دون مبرر موجب، ولا معنى أن تمنح مقاعد التخييم مثلا لأطفال ويحرم منها آخرون، أو تعرقل رحلة وصولهم إليها من طرف من يفترض فيهم مساعدتهم من السلطات.لا معنى..ولا معنى.. ولا معنى للحسابات الضيقة والكيل بمكاييل رغم أنف الدستور والقوانين.
10 – الاعتبار اللائق للبعد العالمي في منهاج العمل المدني: فقديما قيل:”فكر عالميا واشتغل محليا”، واليوم تبين أن العالم فعلا قرية واحدة،لا حدود بين دوله ولا تأشيرة إلا في خيال الناس ودواليب إداراتهم البيروقراطية رغم زجاجيتها، إن “الصين” في أقاصيها جارة لكل دول العالم،وما طلاها من “الطين الكوروني” في أقصى الأرض ها قد طلا غيرها في أقاصيها، فهل نغير قناعتنا في العمل لتصبح:”فكر عالميا واشتغل محليا وعالميا”؟؟.
نعم منظومة حقوق الإنسان أصبحت اليوم كونية تحاسب عليها كل الدول والمنظمات، وكثير من كوارثنا التي تستنزفنا كل الدهر كالحروب والفقر والبطالة والتلوث والتطرف والإرهاب..إنما هي سياسات عالمية عرجاء ينبغي التعاضد للتصدي لها وإخماد نارها في مهدها وسببها الحقيقي، وقديما قيل:”من لم يطفئ النار في بيت جاره، أحرقت داره”.
لابد من تعدد خطط العمل المدني،خطة للظرف العادي والإمكان المتاح، وخطة للطوارئ والأزمات، وخطة للتأسيس وقلة الإمكان، وخطة للإقلاع والتراكم والتطوير، وخطة..وخطة..محكمة ومرنة جادة ومتجددة، حتى لا يصيب القوم ما أصابهم في زمن “كورونا”.. دخلوا في الحجر الصحي..والحجر السياسي..والحجر المدني..، فما عاد باستطاعتهم غير قولهم:”العين بصيرة واليد قصيرة..العين بصيرة واليد قصيرة”، فاللهم ألطف بنا وبعبادك يا رب.