رمضان وإحياء العلاقات الإجتماعية – شيروان الشميراني
عائلة شابة تتكون من زوج وزوجة أمريكية جاءت الى مدينة السليمانية في كوردستان العراق بغاية تدريس اللغة الإنكليزية في مدرسة أهلية، بعد ست سنوات قررت عدم العودة الى الولايات المتحدة، والسبب هو متانة العلاقات وحرارة التواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وما أحست به من متعة وراحة نفسية وانبساط روحي، قالت الزوجة المعلمة ذلك في لقاء تلفزيوني، وهي تتحدث بلغة كوردية واضحة وسليمة، والسبب قالت إن في الولايات المتحدة أول ما نهبط من الطيارة كل شيء ينقطع، ويكون هناك حاجز صَلب بين أفراد المجتمع.
ومؤخراً نشرت وسائل إعلام مستندة لاستطلاعات رأي أمريكية ما سمته ب ” ركود الصداقة” التي أصبحت ظاهرة في المجتمع الأمريكي، حيث تحدث تغيرات جوهرية في العلاقات الإنسانية وعدد أقل من الأمريكيين لديهم صداقات وأصدقاء مقربين، ويُعزى ذلك إلى الطبيعة الفردانية لأعضاء المجتمع وتأثير التكنولوجيا الحديثة وعدم الانخراط حضوريا في الأنشطة الاجتماعية.
تلك المجتمعات، وسائل الروابط واللقاءات فيها محددة في الأمور الدنيوية والتي تنحصر في الربح والمتعة، ويتحدد الترابط لنيل الربح والمتعة المادية بقدر الضرورة. من غير ذلك لا توجد أدوات أو أجواء تتشكل من أبعاد إنسانية بحتة، لأن الأبعاد الإنسانية غير المادية المشتركة بين بني آدم، قضي عليها، وجُفت مصادرها، بدأ بالبرود الديني ثم تحويله الى حاجة ثانوية، ثم انتشار الإلحاد، والجانب الفلسفي من العقل البشري لم يتمكن من أن يكون بديلاً في تأسيس بنية المجتمع على الروابط الإنسانية لمجرد الحاجة الإنسانية والضرورة الحياتية وبعيداً عن التفكير بالمادة وبريقها. كما أنّ سيطرة الفكر الفرداني، والاكتفاء بالذات المنفردة، فاقمت الأزمة. فتحطمت الأسرة ليست الكبيرة منها بل الصغيرة لم تنجو أيضاً.
والإسلام، بما أنه دين عالمي إنساني، يقرر أن المهمة في الحياة لن تكتمل إلا بالتعاون، والتكامل بين الجهود لتشكل كتلة ضخمة قادرة على النجاح في أداء المهمة على الأرض، رسخ “فرضاً وسنة” في تعاليمه وإرشاداته – أمراً ونهياً- ما يدفع المؤمنين به إلى التواصل والعلاقة الاجتماعية المتينة دفعاً.
ومن أجل ذلك جاءت الشعائر العبادية، كلها والتي هي من الفرائض الاجتماعية الخالصة، وما الجانب الفردي منها إلا لإعداد الانسان المسلم ليكون قادراً على أداء مقتضياتها الاجتماعية، وبما أننا في رمضان والحديث محصور فيه، نذكر المقصد الاجتماعي وسبل تمتين الأواصر عبر الصيام وعبادات أخرى خاصة برمضان المبارك.
1- أول ما يبدأ الصيام يُحَلِّقُ شعور المسلم ويذهب بعيداً في وحدة شعورية مع جميع الأمة المسلمة في أي مكان على هذه الأرض، يعلم بأنه حدث ليس وحده عضوه الفعال وإنما جميع من هم مثله يدين بدين الإسلام ملتزماً بأوامر الله سبحانه، لهذا يكون الحديث عن رمضان والصائمين في هذا البلد أو ذلك، في هذه القارة أو تلك، وعند الإفطار عقله وخياله عند كل من أفطر في هذا الوقت كأنه جالس على مائدة على واسعة قدر وسعة الأرض اتجمع حولها كل الصائمين في العالم في مجلس واحد. كل حركة من السحور إلى الإفطار ذات بعد عالمي إسلامي.
2- قليلا ما يستفيد المسلمون من المسجد وأهمية الصلاة فيه جماعة، لكن في رمضان ترى البعد العلائقي في صلاة التراويح، حتى من لم يذهب إلى المسجد إلا أيام الجمعة التي يرى فيها فرضاً واجباً، إلا أن المساجد في رمضان تمتلئ بالمصلين كتفاً إلى كتف، والجميع يلتقون، هناك يسلمون على بعضهم ويكون الكلام الدائر عن رمضان وبركاته والتأثيرات التي يتركها على الحالة الروحية للإنسان المسلم، وعن أحوال فلان أو علان من الصديق أو القريب.
3- الإفطار الجماعي، قبله في الشهور الأخرى، عادة الاجتماعات تكون في مناسبات تتعلق بمحطات في الحياة العامة، نادراً ما يكون الاجتماع على مائدة عامة خارج الأسرة لمناسبة دينية روحية سوى عند أهل الطرق الصوفية ومترددي التكايا والزوايا، لكن البحث عن أجر إفطار الصائم في رمضان، يخلق في قلب المسلم دافعاً للجمع أو الصرف من المال الخاص لإعداد إفطارات جماعية، في المساجد والمؤسسات والمتنزهات العامة، ومما يدل على الروح الجماعية التي تجبر الصائم على التواصل المباشر مع الآخرين هو تقديم التمرات والماء للصائمين الذي يسيرون في الطرقات الخارجية، شعور بأريحية لافتة يشعر بها من يقع في الموقف السامي بابتسامات متبادلة، لن تكون وحدك، ولن تُترك وحيداً دون زاد الإفطار في الشارع، وفي بعض الدول العوائل تخرج وكل يحمل فطوره الخاص لأماكن مباركة كما هو في حي الحسين في القاهرة في جو روحاني إنساني عام.
4- لمن لا يقدر على الصيام من أهل العذر الشرعي، عليه دفع الفدية لمن يحتاج وجوباً، هنا رب العالمين يقول إذا أنت لا تقدر الامتناع عن متع الدنيا من أجلي، فعليك تعويض ذلك بدفع البديل المقرر بنص قرآني لمن لا يجد الضرورة من لوازم العيش الكريم، هنا يكون الربط بين العبد وبين أخيه المسلم وبين الخالق تعالى في علاقة متينة لن تكون إلا بالصيام في رمضان وليس مجرد الصيام تنفلاً. ودفع الفدية هذا معناه أن من غايات الصيام هو الشعور بحاجة الفقير، فإذا لا تصوم توجب عليك تحقيق الغاية منه.
5- وتأتي زكاة الفطر، تزكية بالمال القليل جداً، ولن تكون إلا في رمضان، وزكاة الفطر هي تعامل حضوري مباشر بين المسلمين، فرداً، أو جماعة عبر التوزيع الجماعي، لكن في النهاية هي شعور بالآخرين المسلمين وتواصل روحي مادي معهم، عبادة جماعية، إشعار للطبيعة الاجتماعية للطرفين من يزكي ومن يقبل منه الزكاة.
6- مما تغيره ليالي رمضان التي لا تشبه ليالي أخرى للسنة، هو الزيارات العائلية والإجتماعية التي تزداد وتكون ذات طعم مختلف، أحلى وأطيب مذاقاً في الشعور وأكثر تأثيراً في الاحساس.
7- صلاة العيد، والتجمع الكبير في الساحات، حيث يجتمع الصائمون فرحين فرحاً شديداً لأن الله – سبحانه- مكنهم من أداء الفريضة على الوجه الحسن، أو الأحسن، يقدم المصلون التبريكات متصافحين متسامحين على ما عكَّر صفو أخوتهم وصداقاتهم.
العادة الجميلة التي لن تجدها إلا لدى المسلم بالزيارات العامة لمدة ثلاثة أيام مفتوحة لزيارة البيوت والتقاء العوائل للسلام والكلام والتبريك، يكون الحديث مباشرة وجهاً لوجه وليس عبر وسائل التواصل فقط كما أبتلي المجتمع البشري عموماً.
رمضان مليء بالحِكَم، ومليء بالمقاصد العالية في أيامه الغالية ولياليه، إحياء العلائق وإعادة بنائها من الغايات التي يريد الصوم إبلاغنا بها.
وتقبل الله منا ومنكم صالح أعمالنا، صغيرها وكبيرها.