رمضان عندما يكون بطعم الأخوة والمحبة – الحبيب عكي
هناك انطباع تناقضي سيء في العديد من الهيئات والمؤسسات والتنظيمات، وهو أنه رغم كثافة الأنشطة المسترسلة والمكثفة التي تقوم بها في مختلف المجالات، فلا زال الشعور العام السائد والطاغي عند الكثيرين من المسؤولين والعاملين، هو الفتور والملل والانسحاب الشعوري والفعلي، ربما لفقدان الأمل في كثير من الأمور والشعور بعدم الجدوى في العديد من البرامج والنضالات، أو أن الأمور تؤتى من غير مآتيها ودون القوة والجرأة التي تتطلبها، وبالتالي لن توصل إلى المؤمل والمنتظر منها، ما دام الأمر عند هؤلاء أو في حقيقته مجرد حرب سيزيفية وعمل دونكيشوطي يحارب الطواحين الهوائية والمجتمعية كمن يصب الماء في الرمل أو من يبحث كالمخبول عن رأس الخيط في كبة مخبلة.
سمعت أحد الزعماء يقول، أن كل اللقاءات والأنشطة واللجن و التخصصات والتقارير والهيئات والبرامج والمخططات والحملات – على أهميتها القصوى – لن تصنع تاريخا ولا حركة ولا تغييرا وإصلاحا، ما دام الإنسان القائم بكل ذلك أو المستهدف منه، لا يشعر بذاته واعتباره كما ينبغي، أو بتعبير آخر، ما لم يكن منطلق الأخوة والمحبة هو المدخل وهو المحمل في كل الحركات والسكنات، وهو المبتغى والمنتهى الرباني أيضا (إرضاء الله بإرضاء عباده وعيادته بعيادتهم وإطعامه بإطعامهم..)، على الأقل حتى إذا لم يكسب المرء وراء جهده وجهاده شيئا دنيويا، بفعل عوادي الزمن وغدر العفاريت وبلطجية التماسيح، على الأقل يكسب نفسه.. يحافظ على لحمته.. يؤدي الذي عليه وتلك رسالته، قال تعالى:” وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” الأنفال/46.
فأين نحن من هذه الأخوة والمحبة وقد أصبح البعض لا يهمه غيره من إخوته ولا من غيرهم إلا بقدر ما يحضرون من اللقاءات تلو اللقاءات. وينجزون من التكاليف تلو التكاليف ويؤدون من الالتزامات تلو الالتزامات..؟ أين نحن من هذه الأخوة والمحبة وقد أصبحت حتى دعوة الحضور عند البعض للقاء أو نشاط معين، مجرد رسالة صماء ترسل إلى المعنيين بريدا أو رابطا عبر أحدى التطبيقات الالكترونية، واستعاض البعض بهذه الأدوات الجوفاء عما كان من الزيارات المباشرة واللقاءات الدافئة والمكالمات الأخوية الحارة وما قد يكون فيها من السؤال عن الأحوال ودخول البيوت وتبادل الآراء والأحاديث وربما الطعام والشراب؟ أين نحن من حق الأخوة إذا كان مجرد حق المعلومة والمشاركة في القرار دولة بين المسؤولين وحدهم أو يكاد، وغيرهم من المسؤول عنهم إذا ما حضروا فلمجرد الاستماع والتصويت ليس إلا؟
إن الأخوة سبيل المحبة كما في الحديث القدسي” وَجَبَتْ مَحبَّتي للمُتحابِّينَ فيَّ، والمُتجالِسينَ فيَّ، والمُتزاوِرينَ فيَّ، والمُتباذِلينَ فيَّ.”. وللأخوة حقوق وواجبات كما في حديث المحبة:” ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام” رواه الترمذي، وفي الحديث الآخر:” حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشمِّتْهُ، وإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ” رَوَاهُ مُسْلِم عن أبي هريرة. هذه معايير الأخوة وجسورها قبل الدعوات واللقاءات والتكاليف والالتزامات ومعها وبعدها، فأين نحن منها ولدى كل منا هموم لا يواجهها إلا وحده، وأمراض لا يقاومها إلا وحده، وأولاد كل يوم تتجاوزه مشاكلهم.. دراستهم وقيمهم.. بطالتهم وعنوستهم..، نجاحات وإخفاقات.. ضغوطات و متطلبات لا يعافسها في غياب “عزي” و”عدي” إلا وحده.
هذا رمضان الأبرك قد أظلنا وحل بيننا و هو المطهر، فكم حاجتنا إلى التطهر في مجال الأخوة، هذا رمضان شهر التوبة فهل يمكننا التوبة لإعادة الأمور إلى مسارها الحقيقي، مسار الأخوة الدافئة والمحبة الصادقة، وهي من روافع البناء المتين لكل ما قبلها وما بعدها من أعمال دعوية حركية.. جماعية اجتماعية..، هل نستطيع فتح أبواب منازلنا وغرفها قبل هواتفنا ومنصاتها وتطبيقاتها، هل نستطيع إفطار ما تيسر من إخواننا ومعارفنا وجيراننا بأي أسلوب قديم مباشر أو حديث غير مباشر، هل نستطيع أن نتفقد بأي أسلوب من كانوا معنا يوما أو كنا معهم في مكاتب وأندية ولجن معينة ونوفيهم حق الأخوة وودها، هل يمكن أن نساعد المحتاجين من عموم الناس حتى يروا بأعينهم بعض قوله تعالى: “رحماء بينهم”، ويتجسد فينا بعض ما نتحدث عنه من سلوك رسول الله (ص) في رمضان :” كانَ (ص) أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ،.. فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ” رواه البخاري عن ابن عباس “، إن المحبة والأخوة هي الأس والأساس في كل شيء بحضورها تحضر 85 % من أجواء التواصل والعمل الناجح، وإذا افتقدت فلا تسأل عما بقي بعدها غير الفظاظة المنفرة للنفوس المكسرة للقلوب المفشلة للأعمال المفرقة للجماعات، قال تعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ “آل عمران/159؟
صحيح أن الأخوة في الله وهي مقصد المقاصد، فهي في نفس الوقت وسيلة الوسائل، لتحقيق جوهر الدين وترشيد التدين، وليس فقط إرواء لعطش النفوس ووحشة القلوب والاحساس بالأمن والسند، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام:” واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرًا ” طه/29؟ كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا. وفي الحديث:” مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ” رواه مسلم عن النعمان بن بشير. أو في حديث البخاري عن أبي موسى الأشعري: “المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا، ثُمَّ شَبّك بين أَصابعه”، أو في حديث البخاري عن عبد الله بن عمر: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة”، فهل في برنامجنا الرمضاني شيء يجمع بين هذا وذاك.. بين بناء الأخوة وتمتينها وصقلها وجلائها.. وبين حسن استثمارها للتعاون على البر والتقوى وأعباء الدين وتحديات الدعوة.
كانت جماعة من المسلمين يعبرون واديا ملأته مياه الفيضانات ووحلها، وسط الوادي فقد أحدهم نعله الذي سقط منه في الماء العكر، فانحنى يبحث عنه، وإذا بالجميع قد اقترب منه وانحنى مثله يبحث معه لعل أحدهم يجده؟، فكم من الإخوان ينحنون معنا اليوم في همومنا ومع كم منهم تنحني نحن أيضا في همومهم؟، وما فائدة الأخوة إذا لم تكلفنا مثل هذا الواجب السهل الممتنع، المواساة.. العناية.. الرحمة.. الزيارة.. السؤال.. النصيحة.. الدعاء.. التعاون.. التضامن..، كان عبد رب الرسول “سياف” أيام الجهاد الأفغاني وحرصه على التأليف بين فصائل المجاهدين ولحمة الأخوة بين كل الأفغان يقول في ما معناه: “لأن ألقى أخي وأسلم عليه، وأفتح معه حوارا، أحاوره ويحاورني، خير من أن ألفظه وأقاطعه، ليأخذه بعدها عدو لي وعدو له فيضربني به”. وفي نفس المعنى تناقش أخوين ولم يتفقا على شيء، اشتد بينهما الخلاف فأرادا أن يفترقا وفي قلبيهما كثير من العتبى، فقال أحدهما للآخر: “اذهب الآن وغدا نلتقي ونتحاسب”، ورد عليه الآخر: “بل اذهب الآن، وغدا نلتقي ونتغافر”؟، فاللهم ارحم ضعفنا.. وقوي آصرة أخوتنا.. واجعلها خالصة لك.. تنفعنا في الدنيا “بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضا” وفي الآخرة “إخوانا على سرر متقابلين”.. آمين.