رسالة الإصلاح.. بين إسداء النّصح وقصد التّشهير
د. أوس رمّال: إنّ "النصح" المبني على الافتراء يجمع بين خيانة النصيحة وإيذاء المسلم

الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة، وأمرهم بالتّواصي بالحقّ والصّبر، ونهى عن الغيبة والتشهير وفضح العورات، والصلاة والسلام على النبيّ المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، والقائل صلّى الله عليه وسلّم: “الدين النصيحة” رواه مسلم
وبعد؛ فإنّ منزلة النّصيحة في ديننا منزلة رفيعة، بها يثبت الإيمان، ويستقيم المجتمع، وتُصان القلوب من الغشّ والدّغل. غير أنّ النّصيحة؛ كغيرها من العبادات؛ لها آدابها وضوابطها. فإن التُزمت أثمرت خيراً، وإن أُهملت تحوّلت إلى فضيحة أو تشهير.
لقد رسم القرآن الكريم منهج النصيحة في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]. والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، ومن الحكمة أن ينصح العبدُ أخاه بما يُصلحه بعيداً عن أعين النّاس، لأنّ المقصود إصلاح القلب لا جرح الكرامة. وممّا يُنسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله قوله: “مَن وعظ أخاه سِرّاً فقد نصحه وزانه، ومَن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”. فالنّصيحة في السرّ سترٌ ورحمة، بينما هي في العلَن فضيحةٌ لا تزيد المنصوح إلا نفوراً وحرجاً. ولبعض الحكماء: “النصيحة على أعين الناس تقريع، أمّا في الخفاء فهي تلطّفٌ ورحمة“. وفي السّنة ما يؤكّد ذلك؛ فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد تنبيه أصحابه على خطأ، قال: “ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا” فيُشير دون تسمية، ستراً وحفظاً لهيبة المؤمن. وهذا أبلغ في التّربية وأقرب إلى القبول.
أما ما شاع في عصرنا من توجيه “النّصائح” على منصّات التّواصل، في صفحات مفتوحة وجماهيرية، فلا علاقة له بمنهج الإسلام، بل هو في حقيقته لونٌ من التشهير والفضح. إذ أيّ فرق بين أن يُعاتَب المؤمن في سوقٍ عامّ أو أن يُعاتب في فضاء رقمي يشهده الآلاف؟! بل إنّ أثر التشهير الإلكتروني أعظم، إذ يبقى منشوراً متداولاً، وقد يظلّ وصمةً في حياة المرء لا تزول.
ويبلغ الخطر مداه إذا بُني هذا “التشهير” المزعوم على أخبارٍ لم تثبت، أو على ظنونٍ وأقاويل لا أساس لها. فحينئذ لا يكون مجرّد فضيحة، بل يتحوّل إلى بهتان عظيم. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: “كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دمُهُ ومالُهُ وعرضُهُ” رواه مسلم.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف صار بعض النّاس يرفع شعار “النصيحة” ليُخفي تحته غرض التشهير، بل وربما الكذب والافتراء. وهذا من أعظم أبواب الظلم، إذ يجمع بين خيانة النصيحة وإيذاء المسلم وانتهاك عرضه.
إنّ واجبنا اليوم أن نُعيد الاعتبار لأدب النصيحة الشرعية:
- أن تكون خالصة لله، لا تشفياً ولا طلبَ سُمعة،
- أن تكون في السرّ والرفق، لا في العلن والقسوة،
- أن تكون قائمة على العلم واليقين، لا على الظنون والشائعات،
- أن يكون مقصدها الإصلاح والتزكية، لا الإحراج والتشويه.
فليحذر كلّ واحد منّا أن تتحوّل “النصيحة” على لسانه أو قلمه أو صفحته إلى معول هدمٍ وجرحٍ لمشاعر إخوانه، أو أن تكون قائمة على باطل وبهتان. ولْنتذكّر جميعاً أن ستر العيوب أقرب للتقوى، وأدعى لقبول الكلمة الطيبة.
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]. والحمد لله ربّ العالمين.