د الحسين الموس يكتب: نفقة العفو وحاجيات أهل غزة وفلسطين

 وأنا أطالع بعض ما كتبته قديما حول الانفاق ومجالاته، واستحضارا مني لحاجيات أهل غزة، وللحصار الظالم الواقع عليهم وقفت على قوله تعالى في سورة البقرة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]. قال ابن عطية: ” المعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة”.

وتوقف الدكتور يوسف إبراهيم يوسف في كتابه إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية و التطبيق على مجمل أقوال المفسرين للآية وقال :”وهكذا نرى أن المفسرين قديمهم و حديثهم يتفقون في الجملة على أن المقصود من العفو الوارد في قوله تعالى : يسألونك ما ذا ينفقون قل العفو ” هو الفضل و الزيادة عن الحاجات و أنه كله محل للإنفاق” ويؤكد هذا الذي ذهب إليه بما رواه مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ.”

  فلو نظر كل فرد من أفراد الأمة إلى المخمصة والجوع المسلطين على أهل غزة، وتأمل فيما يتصرف فيه من أموال وحاجيات، وما قد يقع فيه من تبذير وإسراف لحاسب نفسه على كل ذلك. ولخشي أن يكون داخلا في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ () وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ () وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا () وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا () كَلَّا } [الفجر: 17 – 21]، فمن لأيتام غزة؟ ومن لأطفالهم؟ ومن لجياعهم؟

   إن السبيل إلى تزكية النفس وتطهيرها، وإلى الإرتفاء في سلم الصالحين لا يكمن في نفقة النفس، ولا في نفقة الأسرة التي ينفق عليها الفرد فطرة وجِبلَّة، وقد يسرف في ذلك، لكن التزكية تكون في النفقة على الغير من المحتاجين، وفي النفقة لنصرة الدين والدفاع عن الأوطان. وقد قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

قال الشيخ عبد الله دراز رحمه الله :” ولنتذكر أن القرآن المجيد ، حين دعانا إلى بذل المال في وجوهه المختلفة ؛ على النفس وعلى الأسرة ، وعلى من وراء ذلك من أبناء الأمة لم يسو بين هذه الأنواع الثلاثة في أسلوب دعوته ، ولكنه اختص هذا التصرف الثالث – أعني شؤون المجتمع – فوجه إليه جل عنايته ، وجعله وحده هو عنوان الطهر ، ومعيار التزكية : “خذ من أوالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها “…فمن كانت نفقاته محصورة في نطاق حاجاته و حاجات أسرته ، و لمن بذل فيهما من فيض و سعة ، فإنه في نظر القرآن لا يزال منغمسا في حمأة الفردية و الأنانية ، ولن يستحق منه لقب الطهر ،حتى يخرج حاله عن هذا النطاق ، وحتى يدخل به في محيط الأسرة الكبرى”.

  إن الأمة كلها تتحمل المسؤولية إزاء ما يقع لأهل غزة، ولا تبرأ ذمة الفرد إلا بأن يقوم بما يجب عليه، وإن مسؤويات أولياء الأمور أوسع وأضخم. روى مالك عن عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى السُّوقِ، فَلَحِقَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ، فَقَالَتْ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلَكَ زَوْجِي، وَتَرَكَ صِبْيَةً صِغَارًا، وَاللَّهِ، مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًا ( ليس لهم كراع يأكلون منه)، وَلَا لَهُمْ زَرْعٌ، وَلَا ضَرْعٌ ( يحلبون منه الحليب) ، وَخَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَهُمُ الضَّبُعُ ( يهلكوا بالسنين ) وَأَنَا بِنْتُ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءَ  الْغِفَارِيِّ، وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَوَقَفَ مَعَهَا عُمَرُ وَلَمْ يَمْضِ، ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِنَسَبٍ قَرِيبٍ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ كَانَ مَرْبُوطًا فِي الدَّارِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ غِرَارَتَيْنِ مَلَأَهُمَا طَعَامًا، وَحَمَلَ بَيْنَهُمَا نَفَقَةً، وَثِيَابًا، ثُمَّ نَاوَلَهَا بِخِطَامِهِ، ثُمَّ قَالَ : اقْتَادِيهِ فَلَنْ يَفْنَى حَتَّى يَأْتِيَكُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ“.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى