د. أحمد ويحمان يكتب: محاولة قراءة سوسيولوجية في اللقاء العابر للحدود والهويات

كلمات في أسطول الصمود العالمي لكسر الحصار على غزة

 

1 – المدخل: الاجتماع الإنساني في زمن المحرقة

من تونس الخضراء، حيث التأم مئات المتطوعين والمتطوعات من قارات وثقافات وديانات مختلفة استعدادًا للإبحار نحو غزة، يتجلى مشهد استثنائي يستحق وقفة سوسيولوجية متأنية. ليس مجرد “نشاط تضامني” عابر، بل هو حالة اجتماعية ـ تاريخية كبرى، حيث يلتقي العربي مع الأمريكي والأوروبي والآسيوي، التركي والكردي والأمازيغي والإفريقي والإندونيسي والماليزي؛ المسلم مع المسيحي واليهودي واللاديني؛ الأبيض مع الأسود؛ مختلف الألسن والإثنيات… جميعهم على أرضية مشتركة: مناهضة الظلم وتجسيد التضامن الإنساني مع ضحايا الإبادة في غزة، حيث تُذبح الطفولة والأمهات والأطباء والمهنيون، يومًا بيوم، وعلى المباشر، منذ أكتوبر 2023.

2 – قراءة أولى: من ابن خلدون إلى كارل ماركس

حين تحدث ابن خلدون عن “العصبية” كقوة جامعة تؤسس للعمران البشري، لم يكن يتصور أن الإنسانية ستشهد في عصرنا هذا “عصبية أممية” جديدة، قوامها المقاومة للظلم والتوق إلى العدالة. هذه “العصبية” العابرة للحدود والأعراق، التي يجسدها أسطول الصمود، تتلاقى مع رؤية ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي (1848) حين وجها النداء لأصحاب المصلحة في تغيير واقع الاستغلال والظلم الاجتماعي: “يا عمال العالم اتحدوا !”. غير أن الاتحاد هنا لا يجري على أساس طبقي صرف، بل على أساس إنساني – أخلاقي ضد الإبادة والعنصرية.

3 – الأسطول كظاهرة اجتماعية – عالمية

من منظور إميل دوركهايم، يمكن فهم هذا “الاجتماع” الإنساني باعتباره لحظة “فيضان جمعي” (effervescence collective)، حيث يتجاوز الأفراد اختلافاتهم ليتماهوا في “وعي جمعي” يحدد الخير والشر، العدل والظلم. هنا تصبح غزة بمأساتها “الرمز الكلي” الذي يعيد توجيه بوصلة الأخلاق العالمية.

أما ماكس فيبر، فيتيح لنا تفسير هذه المبادرة باعتبارها فعلًا ذا “شرعية أخلاقية – كاريزمية”، إذ يقودها رموز لهم ثقل رمزي عالمي مثل:

ماريا آن رايت (العقيد السابقة في الجيش الأمريكي التي تحولت إلى أيقونة سلمية ضد الحروب).

الأم غريتا (المناضلة الأممية التي أبحرت من قبل مع الفلسطينيين).

مانديلا مانديلا (حفيد نيلسون مانديلا رمز التحرر من الأبارتهايد).

جاكوب بيرغير (الممثل الأمريكي، اليهودي الأصل، الذي يصر بعد كل كلمة أو خطبة على غناء الأغنية الأشهر لشعبان عبد الرحيم: “بكره إسرائيل”).

إن هؤلاء جميعا، وغيرهم من الرموز في الأسطول، يجسدون “الكاريزما النضالية” التي تمنح شرعية وتعبئة للجموع.

4 – العبور الرمزي للهويات: نحو مجتمع عالمي للمقاومة

يطرح أمين معلوف في الهويات القاتلة (1998) إشكاليات الانغلاق الهوياتي، وكيف يمكن للهويات حين تُسَيَّس أن تتحول إلى أدوات قتل وتمزيق. غير أن ما نشهده في أسطول الصمود هو عكس ذلك تمامًا: تجاوز للهويات القاتلة نحو هوية كونية نضالية. فالهوية المشتركة هنا ليست قومية أو دينية ضيقة، بل هي “هوية المقاومة للظلم”، التي تجمع بين أقصى الشرق والغرب، وتعيد إنتاج ما يمكن تسميته بـ “الأممية الجديدة للعدالة”.

5 – من طوفان الأقصى إلى أسطول الصمود

لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن السياق التاريخي الراهن: طوفان الأقصى حطم أوهام “نهاية التاريخ” و”إسرائيل التي لا تُقهر”، وأعاد الاعتبار لفكرة المقاومة الشعبية. في هذا السياق، يشكل الأسطول العالمي امتدادًا مدنيًا – شعبيًا للمعركة، إذ ينقل الصراع من جبهة السلاح إلى جبهة القيم.

هنا نستحضر مقولة نيلسون مانديلا الشهيرة: “نحن نعلم جيدًا أن حريتنا غير مكتملة دون حرية الفلسطينيين”. وهي التي تجد ترجمتها العملية اليوم في قدوم حفيده إلى هذا الأسطول.

6 – الجسر بين الذاكرة والنضال: الرموز والدلالات

مانديلا مانديلا: استمرارية التاريخ بين مقاومة الأبارتهايد ومقاومة الاستعمار الصهيوني.

ماريا آن رايت: شهادة على تحول “الآلة العسكرية” الأمريكية إلى أداة للنضال الأخلاقي عندما يتحرر الفرد من الولاء الأعمى.

الأم غريتا: رمز “الأممية الشعبية” التي تجعل من الألم الإنساني جسرًا للتضامن عبر الأجيال.

جاكوب بيرغير: الأصل، على المقاومة الثقافية، حيث يحول الفن والكلمة إلى سلاح رمزي ضد الصهيونية.

7 – الدلالات السوسيولوجية

(من بورديو إلى غرامشي وإدوارد سعيد)

مع بيير بورديو: يحضر مفهوم رأس المال الرمزي، إذ إن حضور رموز مثل مانديلا مانديلا أو رايت يمنح الأسطول قوة معنوية تتجاوز الفعل المادي.

مع أنطونيو غرامشي: نلمس كيف يتحول “المجتمع المدني” إلى جبهة مقاومة للهيمنة، عبر فعل جماعي شعبي يتحدى المنظومة الدولية الرسمية.

مع إدوارد سعيد: يتجسد دور المثقف الحقيقي، الذي “يقول الحقيقة في وجه السلطة”، في كل متطوع ومتطوعة يبحر من أجل غزة.

آخر الكلام:

إن أسطول الصمود العالمي ليس مجرد قافلة بحرية، بل مختبر اجتماعي – سياسي يجسد كيف يمكن للإنسانية أن تتجاوز الحدود والهويات الضيقة لتصنع مجتمعًا عالميًا للمقاومة.

هنا يولد مفهوم جديد: الأممية الجديدة للعدالة، التي لا تقوم على أيديولوجيا أو أي هوية قومية او دينية مغلقة أو مصلحة أنانية، بل على أخلاقية إنسانية جامعة. هي أممية يلتقي فيها الفلاح من إندونيسيا مع المناضل من فنزويلا، اليهودي المناهض للصهيونية مع المسلم المتمسك بفلسطين، المثقف الغربي مع الشاب العربي… جميعهم في سفينة واحدة، تحمل اسما واحدا: الصمود ضد الظلم.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى