حول تحرير فلسطين: توقعات وعلامات – أحمد الريسوني
روى الإمام البخاري في (التاريخ الكبير) عن الإمام الحسن البصري قوله: “الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل”. وهو في (الطبقات الكبرى) لابن سعد: بصيغة (إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل).
وهذا القول النفيس من إمام جليل، يفيد أن العلماء البُصَراء هم الذين يستشِفُّون طلائع الفتن والوقائعَ القادمة، قبل وصولها وحلولها. وهذا هو فقه التوقع.
وأما الذين لا يعرفون الفتن والوقائع، ولا يحدثون الناس عنها، إلا بعد وقوعها، أو بعد انصرافها، فإنما يتحدثون بما أصبح العامة من الناس يعرفونه، وهو من باب (السماء فوقنا)..
ومن معاني هذا القول الحكيم للحسن البصري، سيدِ التابعين رضي الله عنه: أنَّ الخبراء البُصَراء ينظرون في المقدمات، فيعرفون ما هو آت، وينظرون في الأسباب، فيعرفون ما سيعقبها من مسبَّبات.
على أن توقع النتائج والمآلات، والتنبيه عليها، لا يكون لأجل الهروب منها، أو الاستسلام لها، أو الاحتفاء بها، بل هو لآجل التأهب لها، والإعداد لمتطلباتها وتقلباتها.
فإذا كان المتوقَّعُ شرا وفتنة، عملنا على درئه وصرفه، وعلى إغلاق طرقه وكسر شوكته، أو تقليل ضرره ومدته.. وهذا هو الوجه الذي تَركَّـز عليه قول الحسن البصري، لكونه هو الأدعى للحذر والتأهب، وربما لأن سياقه الزمني كان يقتضي التركيز عليه..
وأما إذا كان المتوقع خيرا، فالواجب العمل على تعجيله وتعزيزه، والتصدي والتدافع مع عوائقه وأعدائه.
فتوقُّعُنا للشر، لا يعفينا من التصدي له والعمل على وقف مساره أو تعديله. بل هذه هي فائدة الاستشراف والتوقع.
كما أنَّ توقعنا للخير، لا يعني الاسترخاء وإلقاء السلاح، والاصطفافَ للترحيب والتصفيق؛ فشياطين الإنس والجن لن تتوقف عن العمل بضد ما نتوقع وما نشتهي، وسنن الله تعالى متاحة للجميع (تكافؤ الفرص من هذه الناحية)..
تحرير فلسطين في تصورات العرب والمسلمين
الذين اغتصبوا فلسطين من أيدي أهلها، وهم الصهاينة وشركاؤهم الاستعماريون، لهم تصوراتهم وتمنياتهم لمستقبل القضية. ذاك موضوع آخر.. أما حديثي الآن فهو عن أهل فلسطين، والمحسوبين عليهم، من عرب ومسلمين. ما هو المسار والمآل، أو ما هو السيناريو، الذي يتصورونه للقضية الفلسطينية، وقضية “تحرير فلسطين” على وجه التحديد؟
- بعض السياسيين وبعض المثقفين العرب “الواقعيين جدا” يعتقدون أن تحرير فلسطين ليس سوى حلم يعيش فيه النائمون، فمتى ما استيقظوا لم يجدوه شيئا.
- السياسيون الرسميون يرفعون في الظاهر شعار “حل الدولتين”؛ أي إقامة دولة فلسطينية على أراضي67 مع الاستعداد لتقديم “تنازلات مؤلمة”؟! وهو حل يرفضه الصهاينة، ويعبرونه بمثابة انتحار لدولتهم.
- كثير من الفلسطينيين ومن المثقفين العرب، ينتظرون تغير موازين القوى لصالح الفلسطينيين، وذلك يمكن أن يتحقق في نظرهم بوقف الدعم الأمريكي والأوروبي لإسرائيل. وأن ذلك سيحدث حتما ذات يوم؛ لأن الغرب لا يمكن أن يتحمل أعباء إسرائيل إلى ما لا نهاية، وأن دوام الحال من المحال.
- كثير من العرب والمسلمين، ومن الدعاة والوعاظ، ينتظرون النسخة الثانية من “صلاح الدين الأيوبي”، أو ظهور المهدي المنتظر؟!
- وهناك سيناريو آخر، كان الناس يعتقدونه ويعولون عليه منذ قيام “إسرائيل”، وهو أن تقوم بعض الجيوش العربية والإسلامية منسَّقة – ذات يوم – فتكتسح فلسطين وتحررها من الاحتلال، وأظن أن هذا لم يعد يؤمن به أحد من عوامِّ المسلمين، فضلا عن خواصهم. وحكام الدول العربية وقادة جيوشهم اليوم يصدق فيهم قوله تعالى {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47].
- تصعيد المقاومة الفلسطينية، وتنمية قدراتها القتالية، كمّا وكيفا، في جميع أرجاء فلسطين، وحول فلسطين.
هذه أبرز التوقعات الرائجة لدى أوساط العرب والمسلمين، لتحرير فلسطين.
فما بعد طوفان الأقصى..؟
بعد عملية “طوفان الأقصى”، وما تبعها من معارك ميدانية وتطورات داخلية وخارجية، ظهر أن هذا الاحتمال الأخير (رقم6) هو أضمن الطرق وأفيدها وأرجاها لتحرير فلسطين، إن لم نقل: لا طريق سواه. وتجربة السلطة الفلسطينية، وتوسلات القمم العربية والإسلامية، وقرارات الأمم المتحدة.. كل ذلك ماثل أمامنا، لم يغير ذرة واحدة من الاحتلال وجرائمه وعربدته..
وفيما يلي بعض المؤشرات التي كشف عنها أو أكدها “طوفان الأقصى”، والتي توجه إلى التعويل على هذا المسار، وتشير إلى تباشير نجاحه ونجاعته:
- القفزة الهائلة والمذهلة في المؤهلات والقدرات القتالية للمقاومة، رغم الظروف الخانقة المحيطة بها. وهو التطور الذي يعمل العدوُّ وشركاؤه على سحقه ومنع تكراره، ولكنه قد حصل مرة وبنجاح تام. وما حصل مرة، فقد دخل في حيز الإمكان. وعلينا جميعا أن نعمل على إبطال مسعى الأعداء بنقيضه..
- ظهر أن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية له من القدرات الجهادية، ومن القدرة على الصمود، ما لا يقل عن مثلها في قطاع غزة. وهذا أيضا يتوقف تصعيده على مقدار ما يقدم له من دعم واحتضان، وخاصة من الشعوب المجاورة (الأردن وسوريا ولبنان).
- وبما أن الفلسطينيين في أراضي48 هم من طينة إخوانهم في الضفة والقطاع، فلا بد أن يأتي اليوم الذي تنفجر فيه مقاومتهم للاحتلال، رغم تقديرنا الآن للقيود والضغوط القاسية الموجهة إليهم. وهنا يجب أن نتذكر أن المقاومة التي قادها العالم الشهيد عز الدين القسام ضد الاحتلال البريطاني والتغلغل الصهيوني، كان معقلها هو مدينة حيفا، الواقعة اليوم ضمن أراضي48.
- معركة طوفان الأقصى، كما هو ظاهر للعيان، شحذت في الأمة الإسلامية الكثير من معاني العزة والتضامن والأمل والثقة، وأحيت ثقافة الجهاد وروح الجهاد بجميع أشكاله.. وكل هذا سيشكل منجما ومددا للمقاومين بكل فصائلهم، وفي كافة مواقعهم، داخل فلسطين وخارجها.
- أثبتت عملية طوفان الأقصى أن الوحدة الميدانية بين السنة والشيعة ممكنة ومثمرة للغاية، رغم اختلاف المواقع والأدوار وتفاوتها، وأن فلسطين تجمعنا، والأقصى يوحدنا. وهذا ما يجب على الجميع العمل على تشجيعه وتحصينه وتطويره، بدل خنقه وإرباكه، ومحاصرته بإحياء الحزازات والنعرات تارة، وبالتتفيه والتحقير تارة، أو بتدبيج الشكوك والاتهامات تارة أخرى..
- تفكك الجبهة الداخلية الملفقة للكيان الغاصب. وهذه حقيقةٌ أصبحت معروفة واضحة، وليست مجرد تحليل واستنتاج. وقد برزت وتفاقمت قبيل طوفان الأقصى، ولا شك أن ضغط المقاومة ونجاحاتها سيرفع – وقد رفع بالفعل – من حدة الصراعات والاتهامات والتجاذبات في معسكر العدو.
- وأما الضربة الكبرى التي تلقاها العدو الصهيوني، بفضل طوفان الأقصى، فهي نزيف الهجرة المضادة. ذلك أن أضخمُ ما قامت به الحركة الصهيونية وشركاؤها الغربيون من جهد ودعاية وتمويل، على مدى قرن من الزمان، هو جلب اليهود من مختلف أنحاء العالم، وتوطينهم في أرض فلسطين..
هذا المشروع الصهيوني الاستعماري يشهد الآن تآكلا متسارعا بسبب الهجرة المضادة لليهود، من فلسطين إلى مختلف دول العالم، وخاصة نحو تلك التي جاؤوا منها ويحتفظون بجنسياتها.
المغادرون اليهود هم الآن مئات الآلاف، في غضون شهرين فقط. وهؤلاء بالنسبة للكيان الصهيوني يعتبرون بمثابة قتلى آخرين في معركة طوفان الأقصى، وينتظر كثير من المستوطنين اليهود الصيف المقبل – نهاية الموسم الدراسي – ليشدوا الرحال إلى أوطانهم الحقيقية، أو إلى غيرها من دول العالم.
- يُـجمع المتتبعون، أو يكادون، على أن معركة طوفان الأقصى الجارية منذ أكثر من شهرين، قد أحدثت تغييرات غيرَ مسبوقة في الرأي العام العالمي، وحتى في بعض نخبه السياسية والثقافية والحقوقية والفنية، وخاصة منها الأمريكية والأوروبية، وهي تغييرات في مجملها لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته. وقد قرأتُ وسمعت مرارا: أن الإعلام الشعبي والإعلام الفردي، قد تفوق هذه المرة على الإعلام الصهيوني الاستعماري، المحترف والمتخم بالتمويل والوسائل.
والحقيقة: لقد تفوق الصدق على الكذب، والحقيقةُ على الزيف. ومن هنا يجب دوما على أهل الصدق والحق والحقيقة أن يتكلموا بلا توقف، وبجميع لغات العالم ما استطاعوا.. فالزيف والكذب لا ينتشران ولا ينتصران إلا حينما يسكت أهل الصدق ويغيب أصحاب الحق والحقيقة.
وهنا تجب التحية والإشادة بالدور الإعلامي الطليعي العالمي لشبكة الجزيرة القطرية، بكل فروعها وأذرعها الإعلامية.
وختاما
لا شك أن التقييم الكامل لمخرجات (طوفان الأقصى) هو الآن سابق لأوانه، وقد يحتاج ذلك إلى سنوات، ولكن هذا لا يمنع من تقييم المرحلة فيما أعطته، وفيما تشير إليه.
ونحن الآن لسنا في مقام دراسة التاريخ للحكم عليه، ولاستخلاص الدروس والعبر منه، بل نحن نَدرُس ونُقَيّم واقعا يتشكل، بغرض الإسهام في تشكيله وتوجيه مساره.