تفكيك وهم السيطرة على التاريخ وتعطيل مسار العدل الإلهي.. تأملات من وحي الآية 15 من سورة الحج
كتبها الدكتور الحبيب الشوباني

قال الله جل وعلا في وحيه مخاطبا أهل الاغترار بالقوة في كل زمان ومكان: ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ؟﴾ الحج/15.
- مدخل منهجي
تُعدّ الآية الخامسة عشرة من سورة الحج من النصوص القرآنية التي تتجاوز بعدها الوعظي الفردي المباشر، لتؤسس أفقًا تفسيريًا سننيًا في فهم حركة التاريخ ومآلات الصراع والاستخدام غير العادل للقوة. فهي لا تخاطب حالة نفسية فردية بقدر ما تحاكم نمطًا من التفكير التاريخي القائم على الاعتقاد بإمكانية تعطيل مسار العدل الإلهي عبر التحكم البشري في موازين القوة والأسباب المادية. ومن ثمّ، فإن هذه الآية تفتح أفق التدبر لأن تُقرأ بوصفها أداة نقد مفهومي لوهم السيطرة على حركة التاريخ، وتعطيل سنن العدل الإلهي لا مجرد تعزية للمؤمنين.
- الآية من منظور بعض المفسرين المشهورين.
أجمع جمهور المفسّرين القدامى على أن الآية وردت في سياق تقريعي تهكمي موجَّه إلى من استبعد نصر الله لنبيه ﷺ وللمؤمنين، سواء من المشركين أو المنافقين أو ضعفاء اليقين. فالطبري يقرر أن الخطاب موجه لمن اغتاظ من وعد الله بالنصر، وأن الأمر بمدّ السبب ثم القطع إنما هو تصوير بلاغي لعجز الكيد الإنساني عن تغيير القضاء الإلهي. ويؤكد ابن كثير أن الآية تتضمن استهزاءً بمن ضاق صدره بوعد الله، ومعناها: من لم يحتمل تحقق النصر فليمت غيظًا، فلن يغيّر ذلك من سنن الله شيئًا .
أما القرطبي فيبرز البعد البلاغي للنص، معتبرًا أن الأمر هنا ليس حقيقيًا، بل غايته إظهار فراغ الاعتراض من أي أثر واقعي.
ويذهب الرازي إلى أن الآية تقرر قاعدة عقدية–عقلية مفادها أن الأسباب، مهما بلغت، لا تعمل بذاتها ولا تستقل بتعطيل مآلات العدل الإلهي.
وخلاصة ما ينتهي إليه التفسير التراثي أن الآية لا تتحدث عن فعل فردي، بقدر ما تفكك وهم القدرة على تعطيل النصر الإلهي عبر الكيد والقوة، وتؤكد أن الغيظ الناتج عن تحقق السنن ليس إلا علامة على عجز المعترض، لا على خلل في مسار التاريخ.
- “الظن” بوصفه اختلالًا في قراءة التاريخ
تفتتح الآية بعبارة: ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ﴾، و”الظن” هنا لا يُفهم باعتباره شكًّا عابرًا، بل بوصفه بنية ذهنية مستقرة ترى أن النصر مرهون حصريًا بتفوق القوة المادية، وأن مسار العدل قابل للتعطيل متى اختل ميزان القوة. إن هذا الظن يعكس قراءة اختزالية لتاريخ التدافع الإنساني، تفصل بين القوة والمعنى، وبين الغلَبة والشرعية، وهو ما يجعل صاحبه عاجزًا عن استيعاب منطق السنن التاريخية التي لا تعمل بمنطق اللحظة والرغبات البشرية، بل بمنطق المآل وحتمية العدل الإلهي.
- “السبب” بين الأداتية والسننية
تنتقل الآية إلى بناء صورة بلاغية مكثفة: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾. فالسبب هنا، في دلالته الرمزية، لا يقتصر على الحبل المادي، بل يحيل إلى مجموع الوسائط التي يتوسل بها الفاعل التاريخي لفرض إرادته: من أدوات القوة، إلى شبكات الهيمنة، إلى التحكم في السرديات والمعايير. غير أن الآية، دون إنكار وجود هذه الأسباب، تنزع عنها قدرتها على تعطيل السنن، مؤكدة أن تضخيم الأدوات لا يعوّض غياب العدالة ولا يمنح مشروعية التحقق والاستدامة التاريخية لأي مشروع يغالب السنن الإلهية بطبيعتها القدَرية الغلّابةِ.
- “ثم ليقطع”: لحظة الانسداد البنيوي الانتحاري
تشير عبارة ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ إلى لحظة قصوى من الانسداد البنيوي الانتحاري، يمكن قراءتها في سياقها الرمزي بوصفها تعبيرًا عن الفشل الوجودي للمشاريع التي تراكم القوة دون أن تمتلك أفقًا أخلاقيًا أو تاريخيًا. فالقطع هنا ليس فعلًا جسديًا بقدر ما هو إعلان عن انهيار القدرة على إنتاج المعنى، حيث تتحول القوة من أداة للهيمنة إلى عبء يكشف عجز المشروع الاستبدادي الأعمى عن توليد الاستقرار أو الاعتراف أو المشروعية (المشروع اليهودي الصهيوني حالة نموذجية لهذا الانسداد الانتحاري بعد أن زج به الاستعمار الغربي في قلب الحوض الحضاري الإسلامي ضمن ما نسميه ب”الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” ).
- “الغيظ” بوصفه مؤشرا على أفول المشروع
تختم الآية بسؤال كاشف: ﴿فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ؟﴾. واللافت أن محور السؤال ليس النصر أو الهزيمة، بل الغيظ! فالغيظ هنا علامة على تصدع داخلي، وعلى إدراك – ولو غير واعٍ – بأن مسار العدل التاريخي ماضٍ في اتجاه معاكس لما يُراد له. ومن ثمّ، يصبح الغيظ مؤشرًا سننيًا على اقتراب نهاية الوهم، لا على تحقق النصر بالقوة. يدل على ذلك (في حالة المشروع اليهودي الصهيوني) ان طوفان الأقصى افقد قادة الكيان القدرة على توقع المآلات السننية لصراع القوة ضد الحق، فاستدرجه للوقوع في حرب إبادة جماعية يتابعها العالم بالبث المباشر، جعلت منه عبئا على ضمير البشرية وقيمها الدينية والإنسانية المشتركة في الحد الأدنى بالمواثيق والمعاهدات الدولية، ولذلك ارتفع صوتها واشتد فعلها للتخلص من هذا الكيان بوصفه تجسيدا في واقع الناس لحالة “الشر المطلق” .
- خلاصة:
تقدّم الآية الخامسة عشرة من سورة الحج نموذجًا قرآنيًا متقدمًا في تفكيك وهم السيطرة على حركة التاريخ بالفوة. فهي تقرّ بوجود الأسباب، لكنها تنفي عنها القدرة على تعطيل مسار العدل الرباني. وتؤكد أن المشاريع التي تبني استراتيجياتها على القوة المجردة، دون الارتكاز إلى شرعية المعنى، محكوم عليها بالدخول في دائرة الغيظ، لا في أفق النصر. وبهذا المعنى، تتحول الآية إلى نص سنني يؤسس لفهم تاريخي يرى في العدل مآلًا لا يُلغى، وإن تأخر، وفي القوة غير العادلة حالة طارئة سرعان ما تنكشف حدودها، ثم تزول..!
والله المستعان
د. الحبيب الشوباني




