الوقاية من كورونا بين الأمن الصحي والانهيار النفسي والاقتصادي : مقاربة للحل الأنجع
يقف العالم اليوم حائرا أمام معادلة صعبة في تعامله مع جائحة كورونا بين التطبيق الصارم لإجراءات الحجر الصحي وإبقاء الناس في المنازل وبالمقابل وقوفه على حافة الإفلاس الاقتصادي والركود العالمي بشكل أخطر من أزمة 1929 وما يمكن أن ينتج عن ذلك من اضطرابات سياسية وفوضى اجتماعية تهدد السلم والأمن المحلي والدولي ؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى التأثير النفسي البالغ الخطورة على الأفراد والأسر قد يصل إلى الانهيار النفسي وكثرة الاكتئاب والانتحار وتنامي العنف أو ردود الأفعال السلبية سواء بشكل فردي أو جماعي؛ دون أن ننسى الإقبال على المخدرات والإدمان.
فيا ترى ما هو الحل الأنجع أمام هذه المعادلة الصعبة والمعقدة ؟ . فكل الدول اليوم تطرح هذا السؤال بل بعضها بدأ فعلا بتخفيف إجراءات الحجر وفتح الاقتصاد مثل إسبانيا وايطاليا وفرنسا والنرويج وإيران … وتستعد أخرى لذلك في الأمد القريب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. يأتي هذا رغم تحذيرات منظمة الصحة العالمية من خطورة هذه الإجراءات واحتمال ظهور موجات ثانية وثالثة قد تكون أكثر فتكا كما وقع في الأنفلونزا الاسبانية في 1918 والتي لم يتخلص منها العالم إلا في أواخر 1919.
بالنظر إلى تطور الوباء في العالم فإننا نجد تجارب متنوعة في تعاملها مع الوباء :
+ التجربة الصينية التي اعتمدت الحجر الشامل الكامل وتكفل الحزب الحاكم والوحيد بجميع الخدمات مستثمرا الإمكانات الكبيرة للدولة في جميع المجالات واستطاع التحكم في الوباء في فترة تقارب الثلاثة الأشهر.
+ التجربة اليابانية التي اعتمدت على وعي شعبها وانضباطه وأبقت على الحياة عادية دون حجر والتزم الجميع بوسائل النظافة وتعميم الكمامات وتطبيق التباعد الاجتماعي.
+ التجربة البريطانية التي حاولت تطبيق مناعة القطيع / الجماعية والمفتوحة أمام الفيروس اكنها اكتشفت أنها أمام جرثومة فتاكة وسريعة الانتشار.
+ تجربة بعض دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط التي سارعت إلى غلق الحدود وإدخال الناس إلى مساكنهم وإعلان حالة الطوارئ وأبقت الحياة في حدودها الدنيا معتمدة على الدعم الاجتماعي والتآزر الشعبي
+ التجربة الأمريكية والتي أبقت على عمل الشركات الكبرى وركزت على تعميم الكشوفات وحصر المصابين والمخالطين .
+ التجربة الكورية الجنوبية والتي استطاعت تحقيق توازن بين الحجر الصحي والسير الاقتصادي مستفيدة كذلك من وعي شعبها وتدربه السابق على إجراءات السلامة ومقاومة الكوارث.
إذن هناك تجارب مختلفة ومتنوعة لعدة دول حسب نظمها السياسية ودرجة وعي شعوبها وإمكاناتها الاقتصادية والتكنولوجية ومدى أخذها بمحمل الجد لخطورة هذه الجائحة.
هذا الفيروس ومنذ ظهوره عند الإنسان في أول حالة بمدينة ووهان الصينية في دجنبر الماضي أصاب 2 مليون شخص في العالم وخلف 120 ألف حالة وفاة اي بنسبة 6%. أغلب الإصابات أصبحت تتركز في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ( 80%) وتبقى إفريقيا هي الأقل إصابة بحوالي 10ألاف إصابة وأمريكا اللاتينية ب 20الف إصابة، ويعود هذا بالدرجة الأولى للاستهتار الذي تعاملت به هذه الدول مع الوباء لكن هذا لا يمنعنا أن نلاحظ وباستغراب وجود عوامل بيئية وجينية ومرتبطة حتى بنمط العيش والذي يخضع دوره للثقافة والسلوك؛ حيث تواترت الأخبار من هناك حول قلة الإصابة في صفوف الجالية العربية والتي تعرضت لكثرة الاستفزازات والإيذاء من مثل وجود أوراق الكلينيكس في علب البريد أو آثار السعال والعطاس على الأبواب والسيارات….وغيرها.
ويمكن أن نضيف ملاحظات أخرى حول التطور الوبائي لهذا الفيروس منها قلة الوفيات في عدة دول على رأسها دول الخليج إضافة لدول أخرى مثل اسلاندا وزيلاندا الجديدة وهونكونغ وسنغافورة وأوزبكستان وأوروبا الشرقية ….
هذا وان كنت لا أعتبر هذه الإحصائيات محددا لخطورة تفشي الفيروس لسبب وجود تلكئ وتجنب عدة دول من إعطاء الأرقام الحقيقية, ولسبب آخر وهو أهم ويتعلق بكثرة الحالات الصامتة لكورونا والتي قد تصل إلى 80 % من حالات الإصابة ونعطي هنا مثال إصابة قرابة نصف أفراد حاملة الطائرات شارل دو غول الفرنسية رغم بقائها في البحر لقرابة أربعين يوم بعيدة عن الشاطئ.
ونفس الشيء لحاملة الطائرات روزفلت الأمريكية، هذه الحالات الصامتة تجعلنا نؤكد على استحالة الإعلان عن الانتصار ضد هذا الوباء في المنظور القريب على الأقل وأنه غالبا ماض ليحصد الملايين من الإصابات الجديدة في العالم وقد تكون على شكل موجات معدية على امتداد السنة والنصف إلى السنتين بالقياس إلى الجوائح الكبرى التي مست العالم عبر القرون الماضية. لذلك فالعدد الحقيقي للإصابات قد يكون يتراوح في حدود 10 أضعاف الأرقام الحالية لو أنه تم توسيع الكشوفات وتكثيفها بين المخالطين والمشكوك فيهم.
أمام هذه الوضعية، العالم بأسره يحبس أنفاسه ويسابق الزمن لاكتشاف لقاح جديد يخلص البشرية من هذا الرعب الذي تعيشه وليس أمامها الآن إلا بعض الأدوية والتي مازالت تحت الاختبار السريري ولم تلقى بعد كل الإجماع العلمي المطلوب.
إقرأ أيضا: حظر التنقل الليلي خلال شهر رمضان من السابعة مساء إلى الخامسة صباحا |
وفي الظرف الراهن يمكن أن نقول أنه انتهت حيلة البشر أمام هذا الفيروس المستجد الغريب في انتشاره والغريب في تأثيره على مناعة الإنسان والغريب في تقلباته الجينية من الصين إلى أوروبا إلى إفريقيا؛ أو من اختلاف الإصابة بين الفئات العمرية أو الجنس …. وقد تكون له طفرات أخرى الله أعلم بها لكونه عبر عن صموده في الأماكن الباردة من الأرض وكذلك الحارة منها, ولا أحد من البشر يمكن له أن يدعي اليوم أنه باستطاعته الجزم بوقت بطلان مفعول هدا الفيروس وتوقفه عن الانتشار.
أمام كل هذه المعطيات الخاصة بهذا الوباء الجائحة ، نعيد طرح سؤال المعادلة الصعبة والتي طرحناها في مقدمة مقالنا هذا على واقع بلادنا المغرب و هو كيف السبيل إلى أفضل الحلول وأنجعها ؟ هنا يمكن القول أنه أمام لجنة اليقظة الوطنية بعض الخيارات في المنظور القريب على الأقل نذكر منها :
تقسيم جهات المغرب الى ثلاث مستويات:
* مستوى أحمر ويمثل جهات البيضاء والرباط ومراكش وفاس مكناس ثم طنجة، هذا المستوى يتطلب الإبقاء على المستوى الحالي من الحجر لشهر آخر مع توسيع دائرة الكشوفات المخبرية والسريعة (تحليل الرداد والدم) من أجل تشخيص الحالات الصامتة والمخالطة ومحاصرة البؤر العائلية والإنتاجية أو المهنية، مع إيجاد حلول أكثر أمان للتبضع في دائرة الأحياء ( إغلاق الأسواق والمحلات التجارية الكبرى) وتمكين الفئات المعوزة والفقيرة من كمامات مجانية وفق التضامن الاجتماعي وإعطاء دور أكبر للمجتمع المدني لمساعدة الجهات المسؤولة في إنجاح تدابير الطوارئ الصحية وما تبعها من قرارات اجتماعية.
* مستوى أصفر يمثل جهة الشرق ودرعة تافلالت وسوس ماسة: هذا المستوى يتطلب إضافة 15 يوم من الحجر الحالي ثم بداية الرفع التدريجي له بعد ذلك والسماح بالأنشطة الاقتصادية الأساسية مع إبقاء إغلاق المدن ومنع حركة النقل العادية بينها.
* مستوى أخضر ويمثل جهة العيون والداخلة وكلميم ويمكن رفع الحجر عنها من الآن مع الالتزام المستمر بالتباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات وتتبع حالات المخالطين وزيادة الكشوفات المخبرية. هذا الإجراء يمكن كذلك أن يشمل المدن ذات كوفيد صفر وإن وجدت في منطقة من مستوى أحمر أو أصفر.
بجانب هذا التقسيم لابد من تسطير جملة من الأمور المشتركة :
* استمرار إغلاق المؤسسات التعليمية إلى غاية شهر النصف من يونيو لسبب أساسي هو إن الأطفال هم محضن فعال للفيروس ويمكن أن ينشروه بسرعة في المجتمع ولكونهم لا يحسنون الإجراءات الاحترازية من المرض. ويمكن أن يطرح للتفكير إمكانية السماح للسنوات الاشهادية الشروع في استئناف الدراسة بداية من نصف ماي مع احترام قاعدة التباعد الاجتماعي في الأقسام و ساحة المؤسسات وعدم الاعتماد على وسائل النقل المدرسي.
* تطبيق قاعدة التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات بشهر بعد خلو المغرب تماما من كوفيد 19.
* استمرار غلق الحدود أمام المسافرين مادام العالم لم يتعافى تماما من الفيروس.
ومن أجل دعم الجانب النفسي والحفاظ عليه :
* لا أرى مانعا بالنسبة للأفراد أو الأسرة فقط ولا أقول العائلة أن نسمح لهم بالخروج للبادية والأرياف والجبال أو البحار أو الصحاري الخاصة بإقليمهم إذا ما احترموا التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات أو أن نسمح للأفراد بالرياضة الفردية بعيدا عن الناس.
* إمكانية عودة الصلاة في رمضان لكن في الساحات وليس داخل المسجد مع احترام مسافة التباعد بين المأمومين وهي قضية تحتاج إلى فتوى.
* توجيه للمسنين وأصحاب الأمراض المزمنة وضعف المناعة على الاستمرار في الحجر حتى إعلان المغرب بصفر كوفيد لكونهم الأكثر عرضة لفتك الفيروس.
* استمرار منع كل الأنشطة التي تقام بجمهور مع إمكانية إقامتها بدون جمهور ابتداء من نصف يونيو أو بداية يوليوز بعد تقييم دقيق للوضع الوبائي.وهنا لابد من التنويه للقرار ألاستباقي والفعال لجامعة كرة القدم والجامعات الأخرى والدي جنب المغرب كارثة اسبانيا وايطاليا.
وفي الأخير لا يفوتني أن أخلص للأفكار التالية :
- لنجعل من كورونا بداية فعلية لترسيخ نموذج تنموي حقيقي يجعل من الإنسان المغربي محور هذه التنمية على أساس التكريم والكفاءة والمسؤولية وفق مرجعيتنا الإسلامية.
- تشجيع البحث العلمي وتقوية المنظومة الصحية واستثمار الكفاءات الهندسية في الإقلاع الاقتصادي الحقيقي.
- إعادة الاعتبار لمنظومة القيم التي تميزنا وهي سر تفوقنا على مر التاريخ والكفيلة بتحقيق شهودنا الحضاري.
فالله تعالى أسأل أن يرفع عنا هذا الداء والبلاء وأن ينزل علينا رحماته الواسعة حتى يعم أوطاننا الأمن والاطمئنان. آمين
الدكتور مصطفى الطيب