المنازعات الأسرية بين المحــاكم والحلول البديلة؟؟ – الحبيب عكي
ربما لا تخلو أية أسرة من وجود بعض المشاكل والمنازعات التي تنغص حياتها، مشاكل في التصورات التربوية ومنازعات في أساليبها بين الراكد والوافد، منازعات حول الأمور المادية والمصاريف اليومية الباهضة والتي تجعل العين بصيرة واليد قصيرة، احباطات وانكسارات بسبب ما قد يسود بين أفرادها من التوتر والعنف والخصام وما قد ينال منه بعض الأفراد من سوء التقدير والاحترام..ويفقدهم حظهم الأسري الضروري من السكن والمودة والرحمة؟؟، ورغم ذلك قد يكون هذا الأمر طبيعيا لاختلاف أفراد الأسرة وعائليها من حيث التنشئة الاجتماعية وما طبعوا عليه من اختلاف العادات والتقاليد والمرجعية الفكرية للقرارات والسلوكات والاختيارات،والدوافع الشخصية للتموقعات والمصالح والطموحات..،وغير ذلك مما قد يهدد بتفجير الأسرة وهدم أركانها على أهلها،أو جعلها مجرد صورة شبح لا تملك من الأسرية إلا الاسم والمبنى دون معنى؟؟. وضع حرج ولا شك ولكن عادي ولا تكاد تنجو منه الأسرة إلا بقدر ما تكون قادرة على تدبير أمورها وحل مشاكلها والتخفيف من معضلاتها،وذلك فن من فنون الحياة وقيادتها ينهل منه الناهلون بقدر صفاء النوايا والأقوال وصواب الأهداف والأفعال..وبقدر تملك الوسائل والمنهجيات؟؟.
وأكيد،أن كل الأسر تسعى لحل مشاكلها والتخفيف من معضلاتها،وأكيد أيضا،أنها تختلف في طريقة ذلك،فمنها من يعتمد على نفسه ويكتفي بذاته وهو المعني والأعرف بالأسباب والمسببات والحقائق والإمكانيات،وقد ينجح في المهمة الإصلاحية وقد لا يزيدها غير تعقيد على تعقيد،إذا ظهرت الغلبة وطغت الأنانية وساد كسر الأنوف وتمريغ الجباه في الوحل؟؟،ومنها من يلجأ إلى الأقارب والأصدقاء امتثالا لقوله تعالى:”وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚا”النساء/128.وقوله تعالى:”وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا “النساء/ 35.وهذا حل مشروع ورائع إذا توفرت نوايا الصلح بين المصلحين والمتصالحين ويفقهون في طرقه ويتملكون أساليبه؟؟،ومن الأسر المعطوبة من يلجأ مباشرة إلى المحاكم وعلى أتفه الأسباب،ولو رأينا لوجدنا في الحقيقة أن المحاكم قد تملك العديد من الحلول في العديد من القضايا،لكن رصيدها من الحلول في المجال الأسري المعقد قد لا يكون في المستوى المطلوب،وقد لا يزيد الطين إلا بلة والمشكل إلا تعقيدا على تعقيد،ولكن تبقى المحاكم على كل حال وكما يقال:”آخر الدواء الكي والمحاكم”؟؟.
وأسوأ من المحاكم على مجانيتها،ما يسود اليوم من نشر الغسيل الأسري على أمواج الإذاعات الأثيرية خاصة،والذي بات يزكم أنوف المستمعين في كل الأوقات ويلوث آذان المسافرين والساهرين صباح مساء،وإن بأسماء مستعارة،وإن بدعوى التحسيس وتقاسم التجارب،وإن بدعوى الإصلاح وتفادي الأسوأ،وإن بدعوى الفضفضة وتخفيف الضغط النفسي على المشتكين والمشتكيات،فإن أهم هذه البرامج – مع الأسف – لا تعمل إلا على عكس ذلك،ولسبب واحد وأساسي هو افتقادها إلى مقدمين ومقدمات يمتلكون من الفكر المرجعي و القدوة والخبرة والنضج الإصلاحي،ما يؤهلهم لحل مشاكل المستمعين فعلا،لا تعميقها وتعقيدها وتفجير الأسر بكل بساطة وبعقلية المراهقة الإرشادية ومرجعية الصراع والغلبة وأنا..وأنا..و”لهلا يقلب ولا يشقلب”؟؟،كثيرا ما يظهر أن بعض هؤلاء المقدمين والمقدمات مجرد مسترزقين جدد وجريئين ولكن لا يفقهون كثيرا عن عمق الأسرة المغربية وخصائصها،عن أدوارها التربوية وتحدياتها المعاصرة،ولا عن تشعبات الواقع المغربي الذي يريدون فك تشابكاته،ولا عن فقه الحقوق والواجبات..والموازنات والأولويات..ولا الضروريات والكماليات..،ولذلك لا تستغرب أن تجد بعض هذه البرامج الأسرية قد عنونت نفسها بعناوين غريبة تفوح منها روائح الترويج..للخيانة و الإباحية..المادية و الاستهلاكية..الاستلاب و التمييع..الصراع والغلبة..وغير ذلك مما قد يهدم الأسرة ويزيف وعيها ويعقد حياتها وهي أحوج ما تحتاج إلى التبصير والتصبير والتيسير والتنوير والتماسك والتضامن والبناء؟؟،
وبالمقابل من كل هذا، فهناك العديد من الفضاءات الجمعوية والأعمال المدنية البديلة التي نجحت في حل العديد من المنازعات والمشاكل الأسرية،وفي تطويقها قبل تفاقمها بل وفي الوقاية منها قبل حدوثها،الشيء الذي تفوقت به على غيرها من الفضاءات والمؤسسات،وهي أشياء بسيطة لكنها أفكار إبداعية ذات مردودية كبيرة في التربية المجتمعية وذات قيمة مضافة واضحة في المصالحة الأسرية، ومنها مثلا،مشاريع “مراكز الاستماع” في الجمعيات والمؤسسات التربوية،ومشاريع “الوساطة الأسرية” في الجمعيات والوداديات ومشاريع “التربية الوالدية” الرامية إلى إعادة الاعتبار للأسرة ودور الوالدين فيها،وغير ذلك من الأندية الرياضية والترفيهية ذات الطابع الأسري والاجتماعي،ناهيك عن العديد من المشاريع الجمعوية الموجهة أصلا إلى العديد من فئات الفقر والهشاشة ك “المطلقات والأرامل واليتامى” و”الأمهات العازبات و أطفال الشوارع” ومحاربة”الإدمان على المخدرات” و”محو الأمية والتربية غير النظامية ودروس الدعم والتقوية”؟؟،أذكر وفي مشروع”عناية للتربية الوالدية”الذي سبق لجمعيتنا وأن احتضنته بدعم من وزارة الأسرة والمرأة والتضامن والتنمية الاجتماعية مشكورة،أن الآباء والأمهات والأبناء – ذوي الصعوبات التربوية- كما يحكون أنهم ولأول مرة يجتمعون في ما بينهم في ألفة ومحبة دون توتر وصخب واتهامات متبادلة وفي أجواء تربوية تكوينية ترفيهية وتشجيعية..مع ثلة من المؤطرين الأكفاء والمدربين المعتمدين في مجال التربية والأسرة،ورجاؤهم فقط ألا ينتهي البرنامج ولا يتوقف ولو بعد دعم الوزارة؟؟.
اقترب أفراد الأسرة الواحدة بعضهم من بعض.. وتعرفت الأسر المتباعدة بعضها على بعض،وبالواضح والمباشر وغير المباشر تعرف الأطراف على وجهة نظر الأطراف الأخرى في مختلف المواضيع والإشكاليات الأسرية وتحدياتها..”مفاتيح عالم الطفل”..”الأدوار التربوية للأسرة”..”التحديات التربوية المعاصرة للأسرة المغربية”..”التفكك الأسري،المظاهر والأسباب والمخاطر والعلاج”..”الأبناء من الفشل إلى التفوق الدراسي”..”هندسة فن التواصل الأسري”..؟؟،وتعرف كل زوج على نظرة الزوج الآخر للمعالجة والوقاية وناقشها ومحصها..وعلى إمكانياته ومدى استعداده للتفاهم والانخراط و وفق أي مفهوم وأية رؤية..زاد الاهتمام بعضهم ببعض..وتعاون بعضهم مع بعض..أصبحت لهم برامج تدريبية وترفيهية لم تكن لهم من قبل.؟؟،.فشفيت أسر من جفاء عاطفي..وتوقف فيها نزاع دونكيشوطي..وأنقذت بعضها من طلاق وتفكك زاحف..وأنقذ أطفال من هدر مدرسي بعد وعي ومساعدة واهتمام..؟؟،وكأنها فرصة ثانية وميلاد جديد،وكلها دون أتعاب المحامي ولا ضغط جلسات المحاكم،ولا إكراه القانون ولا جرائم عنف مقصود يتوزع ضحاياه بين السجن والمستشفى..والغرامات والإكراه البدني ..؟؟.فعلا ما أرحب الدنيا لمن يمد بصره على طول المدى،وما أكثر الحلول البديلة والرائعة لمن يفكر خارج الصندوق والمعتاد،وما أصغر المشكلة مهما كبرت،فما سميت مشكلة إلا لأن لها حل بل حلول،”لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد”الأعراف/37.هذا مع العلم أن مثل هذه الجمعيات تتسع جغرافيتها ويتمدد طيف اهتمامها ليشمل مختلف قضايا الأسرة وفئاتها وأجناسها ومقارباتها حتى،وأن الدولة وقطاعاتها الوزارية قد انتبهت مؤخرا لأهمية الإنفاق والاستثمار في هذا المجال التربوي والاجتماعي..العلاجي والوقائي،فقط كيف تصل إلينا هذه الجمعيات وكيف نصل نحن إليها كأسر،أو كيف نمتلك جميعا ثقافة البحث عن الحلول البديلة والعمل الجمعوي الراشد إحدى فضاءاتها الرائدة؟؟.
الحبيب عكي