الطويل يعدد خمس معالم منهجية في فكر الراحل عبد الله بها رحمه الله
خمس سنوات مرت على وفاة الأستاذ عبد الله بها .. سنوات زاخرة بالأحداث الكثيرة والوقائع المهمة، والحادة ربما؛ ومع ذلك بقيت سيرة الرجل العطرة حيّة بين الكثير من أقرانه ورفقاء دربه في الإصلاح. فلا يكاد ينقضي لقاء من لقاءات التنظيم والتأطير إلاّ ويُأتى على ذكر الرجل تذكيراً بحكمته الهادئة ومواقفه المتوازنة. ويبدو لي أن إصرار العديدين على مقاومة نسيان الرجل يرجع إلى ما حباه الله من قدرة على الجمع بين كثير مما تفرّق بين الناس، ورعاً وأدباً .. صلاحاً وإصلاحاً.
ومع أن السي عبد الله اعتاد العمل بهدوء في الظل دون صخب، إلا أن مكانه بقي دائما محفوظا بين إخوانه الذي لم يعتادوا منه إلا الرأي الصائب والسلوك السليم. ولعلّه السبب الذي جعل كل رؤساء حركتي الإصلاح والتجديد وحركة التوحيد والإصلاح من بعدها، ثم أغلب الأمناء العامين لحزب العدالة والتنمية يختارونه نائبا لمنصب الرئيس أو الأمين العام.
فالأدوار الطلائعية التي لعبها الرجل في مسار الحركة الإسلامية، ثم على صعيد النضال السياسي والعمل الحكومي، ترجع بالأساس إلى قدرته على الجمع بين بُعد عملي في الأداء ومنطق مجرد في التفكير. بيد أن تجريدية الأستاذ بها ليست كتجريدية المنشغل بعلوم الفلسفة وضروب المنطق، وإنما هي تجريدية بسيطة بساطة منطق الرجل في العيش، تجريدية تعمل على تفكيك الإشكالات العارضة بردّها إلى وحداتها البسيطة الأولية. ولا شك أن في هذا النهج وفاء من الأستاذ عبد الله لأحد أبرز مقومات الإنسية المغربية الميّالة دائمة إلى التفكير في مختلف المسائل وفق رؤية يغلب عليها طابعا العملية والبساطة. ولعلهما البُعدين الذين جعلا المجتمع المغربي يجد في المعتقد الأشعري ملاذه بما هو مذهب عقدي بعيد كل البعد عن الجدالات الكلامية المغرقة في المتاهات الإسمية المجردة، أو باختياره المذهب الفقهي المالكي المعني بالبعد العملي البريء من الهوس “الأرأتي” والافتراض الفقهي الذي لا يترتب عنه عمل.
وعلى أساس من هذا التوجه، استطاع الأستاذ بها أن يشيّد منهجه في الإصلاح على ضروب فقه عملي بمسألة الإصلاح، وفقا لما توارثه المسلمون عامة، والمغاربة بخاصة. ولا شك في أن ما اختطه من كتابات ومقالات، على قلتها تقليل أهل المغرب الأقصى في الكتابة، شاهد على المجهود الذي استطاع من خلاله الأستاذ بها الجمع بين زهدية الصوفي تربويا، ونضالية الحركي سياسيا، وتفاؤلية المسلم مرجعيا ومعنويا.
وإن كان ذ. بها لم يخلف لنا أثرا علميا أو أدبا فكريا كبيرا، لأنه لم يكن منشغلا بالفكر إلا في الحدود الذي يعينه على أسئلة الزمان ومشاكل الناس، إلا أنه مع ذلك ترك من ورائه منهجا عمليا في الإصلاح مستوعب لتراث الفهم الأصولي والمقاصدي المخزون في فقهيات التغيير والإصلاح من قبيل: فقه المراتب والأولويات، وفقه المقاصد والغايات، وفقه الواقع والمآلات. ولا شك أن في ضمور ضروب هذه الفقهيات عند الكثير من رواد العمل الإصلاحي ما كان سببا في فشل الكثير من تجارب الإصلاح وقصورها عن إدراك مراميها في التغيير. وإن جاز لي، في هذا الاقتضاب الوجيز، أن أجمل بعضا من عناصر المنهج الإصلاحي عند الأستاذ عبد الله بها من واقع معرفتي المتواضعة به، فيمكن أن أقتصر على النقاط التالية:
1 – سلامة المنهج أولى من إصابة النتيجة: ذلك أنه في غمرة السياسي وحمأة التدافع ينصب اهتمام الفاعل السياسي على تحقيق المكاسب وإدراك النتائج، وإن استدعى ذلك إهداراً للمنهج. والواقع أن أحد مقومات الفكر الإسلامي الأصيل في تعاطيه مع مسألة الإصلاح كامنة في إيلائه العناية اللازمة لسلامة المنهج، أساساً، قبل الاهتمام بصوابية النتيجة. ولعل الشواهد والأدلة في ثقافتنا الإسلامية من الكثرة والشهرة ما تقصر هذه المقالة على ذكره. ويكفي التذكير بجزاء المجتهد المخطئ في الإسلام، حفزا للمسلم على ارتياد الفعل الاجتهادي، أو الاستشهاد بتخطيء الرسول صلى الله عليه وسلم للمتأوّل حين قال: “من تأوّل القرآن فقد أخطأ وإن أصاب”. فقيمة مسألة المنهج في الإسلام جعلت الأستاذ بها دائم التذكير بقيمته ومحوريته في حركات الدعوة والإصلاح.
2 – مثالية المطلب وواقعية التصريف: من بين ملامح المنهج الإصلاحي عند الأستاذ بها هو جمعه بين متناقضات تفرقت بين طالب لـ”مثال غير قابل للتحقيق” ومحصور “في واقع غير متطلع لمثال”. ذلك أن رؤية الأستاذ بها للتغيير لا تفرّق بين طلب المثال واستحضار الواقع، خاصة وأن المرجعية الإسلامية تحث المؤمن على طلب المثال بشرط تصريفه حسب ما يقتضيه الواقع من ممكنات ويتحمله الناس من طاقات. ولعلّ هذا المعنى من بين أحد المعاني المقصودة بمفهوم السياسة الشرعية بما هي سعي لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاذ، وكأننا نقول بأن السياسة الشرعية هي تدبير لمصلحة الناس الواقعية بما يتوافق مع منظومة صلاح الناس المثالية. وفي هذا تمثل منهجي أصيل للتصور الإسلامي للإنسان بما هو كائن رسالي تجاوزي، أي أنه كائن مجبول على تدبير شؤون كينونته المادية بما تقتضيه رساليته التجاوزية.
3 – مبدئية الوسيلة من مبدئية الغاية: فأحد عناصر المنهج الإصلاحي التي ما فتئ يذكّر بها المرحوم عبد الله بها، هي أن مبدئية الوسيلة من مبدئية الغاية، وأن قيمة الوسيلة من قيمة الغاية؛ على عكس افتراضات السياسية الوضعية الحديثة التي تفصل الغاية عن الوسيلة، مكرّسة في الأذهان أن الغاية تبرر الوسيلة.
4 – ثبات الخطو مقدم على سرعة المسير: ذلك أنه مع كل الأسف، فقد ابتُلي فكرنا السياسي بكثير من العجلة طلباً لقطف الثمار قبل أوانها، فترى الناس يستعجلون تحقيق النتائج وإن لم تتوفر كامل شروطها فينتهي الأمر إلى عكس المرجو منه. لذلك فإن أحد معالم المنهج الإصلاحي عند الأستاذ بها هو التأكد من بناء مشروع الإصلاح على قواعد متينة، وإن استدعى ذلك تأخرا في الزمن، لأن ذلك خير من تسارع الخطو نحو تحقيق النتائج دون التفاف إلى ضرورة توافر الشرائط الكافية بضمان استدامة.
5 – أولوية العقلية النقدية على العقلية النقلية: فجدير ذكره بهذا الصدد، أن أحد أهم ما ميز مقاربة الإصلاح عند الأستاذ عبد الله اعتناؤه بالعقلية النقدية التي تحول دون استحالة الأفكار والاجتهادات إلى أوثان أو تحوّل القيادات والزعامات إلى أصنام. فلقد كان دأبه جاريا على تحفيز الشباب على طلب التفكير المسؤول وإعمال العقلية الناقدة المتطلعة، دائما وأبدا، إلى جديد السؤال وبديع الإشكال، إيمانا منه بأن لكل واقع قضاياه واهتماماته.
وعلى العموم، فإن هذه المقالة العاجلة قاصرة على أن توفي الرجل حقه، إلا أن مقام الاحتفاء بذكراه لحظة وفاته فرصة مناسبة لتقريب الناس، لا سيما الشباب المعني بأسئلة المجتمع، من ملامح المنهج الإصلاحي للأستاذ بها، بما يعمّق احتفاءنا به لا كرجل استثنائي في لحظة استثنائية فقط، وإنما باعتباره محاولة بشرية جادة استفرغت وسعها في تمثل منهج إصلاحي مؤسس على قواعد اجتهاد نظري عميق في استقصاء معاني الإسلام ومبادئه عند مواجهة أسئلة التغيير والإصلاح.
د. محمد الطويل