الحركة الإسلامية والتحدي الإثني – شيروان الشميراني
المقصود بالتحدي الإثني هو تسلل فكرة الأفضلية العِرقية بين الأقوام والأعراق المختلفة إلى داخل المجتمعات، حيث مبدأ الأخوة والمساواة والقيم الدينية السماوية المنسجم مع الخَلق الإلهي ” الإنسان” تزعزع بعد أن كان سائداً، ما تسبب بإحداث شروخات في نسيج المجتمعات، وإحلال المعايير غير الإنسانية وغير الدينية محلها، وهذا التحدي ليس إشكالية نابعة من داخل المجتمعات المسلمة التي لا ترى نوعَ العِرقِ معياراً في المفاضلة، فقد جاءنا مع الفكر الغربي يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر مع جمعية “جون ترك” تركيا الفتاة، واشتد في بدايات القرن العشرين مع الإتحاد والترقي ضمن ما جاء من الفكر بالتزامن مع الجيوش الغربية التي احتلت الأرض واستغربت الثقافة في الحرب العالمية الأولى أو قبلها بقليل، كانت الشعوب المسلمة وحدة واحدة في إطار الوحدة الدينية العقائدية، والمشكلة ازدادت شدة وعنفاً عندما نبتت بذور شجرتها داخل المجتمع الواحد حين أزيح الفكر الإسلامي من التحكم بالعقول .
هذا التحدي برز قبل أكثر من قرن وفي صورتين، ثقافية بزرع الكُره والتعصب وإدارية بمحاولة الإزالة والمحو، وهو مستمر لغاية الآن، لم يُعالَج، وأصبح حديث المهتمين بالمشروع الإسلامي مع الانتخابات التركية الأخيرة، عبر طرح أسئلة من وحي الأحداث من مثل: لماذا صوتت غالبية المدن الكردية لصالح من لا يجدر الثقة به، أو لماذا صوتت الغالبية منهم ضد الحامل للمشروع الحضاري أو المستند إلى الفكرة الإسلامية؟
والحقيقة أن هذا ليس مقصورا على تركيا فقط، وإنما يمتد داخل المجتمعات شرقا وغربا، في أفغانستان الجهاد مثلاً، في تسعينيات القرن الماضي كان التقسيم العرقي بين الطاجيك والبشتون حاسما في إشعال الحرب الداخلية التي دمرت ما لم يدمره غزو الإتحاد السوفيتي السابق، وبعض تجسيدات هذا التحدي لم يظهر بعدُ إلا ظهورا خفيفا، وسوف يظهر بشكل أقوى خلال العقود المقبلة خصوصا في الدول المغاربية الإسلامية، وما يحدث في سوريا ليس تحت سلطة النظام البعثي فحسب، وإنما تحت سلطة المجموعات المعارضة المسلحة التي لا يجمعها جامع.
والحركة الإسلامية التي قررت التصدي للفكر الغازي، كان مما تصدت له هو التشظي العِرقي، خلال القرن الماضي وعقدَين مضيا من القرن الحالي، ضخَّ الفكر الإسلامي ما يكفي من الطروحات الرصينة عن التعامل مع غير المسلم داخل المجتمع، لكنه فقير للغاية في مواجهة التحدي الإثني بين المسلمين أنفسهم، لم يقدم البيان الشافي الكافي، ربما لأنه من المعيب على الإنسان المسلم التطرق الى تلك المسائل، حتى لو كان فيه من الغبن الكثير.
التجربة على مستوى العالم الإسلامي تقول إن تأخر أبناء التيار الإسلامي من التعامل مع التحدي الإثني فتح الطريق أمام الأفكار الأخرى لاحتضان من يعانون المظالم جراء اعتماد الدول المبدأ العرقي في التعامل مع الآخرين وتسلطها، ولَمّا تأخر الفكر الإسلامي عن وضع برامج مستنبطة من الوحي الإلهي والتجربة الإدارية التاريخية التي تطورت بمرور الزمن، وضع الفكر العلماني واليساري الحلول وطرحها أمام الملأ بجرأة ومن دون تردد، بذلك خسِرَ التيار الإسلامي مساحة واسعة هو الأجدر من غيره بامتلاكها، لأن الإسلام بحد ذاته جاء من رب العالمين للتعامل مع المشاكل التي يواجه الانسان والمجتمعات، أيا كانت هذه المشاكل. فكما يتوجب الاهتمام بالجانب الحياتي المادي والاجتماعي يتوجب قبلها الاهتمام بما هو متعلق بالجانب المعنوي الفطري للإنسان.
غضُّ الطرف عن التحدي العرقي والسكوت إزاءه لا يعني عدمه، وإذا كان الإسلام هو الحل بمرجعيته العامة، والداعون اليه لم يطرحوا الحلّ النابع من هذه المرجعية، فإن هذا يدل على شيئين: أما الإسلام عاجز عن المعالجة، أو أن أبناءه عاجزون عن استنباط العلاج من المصادر الثابتة، ومع الفارق بين الإثنين واستحالة الفرضية الأولى، إلاّ أن النتيجة واحدة وهي ذهاب الإثنيات الحاسة بالظلم وغياب العدل إلى أحضان أفكار ومبادئ وتصورات أخرى، وقد تكون عدوة..
بكلمة أخرى إن الحركة الإسلامية تعاني من الناحيتين الفكرية والعملية في التعامل مع هذا التحدي، وهو عجز ذاتي، أي ليس مرجعياً، بل متعلق بالفهم والمستوى الفكري أو القدرة الاجتهادية والجرأة النفسية التي تتطلب الخوض في الغمار من دون الإحساس بالخجل أو الإصابة بالقلق والتردد.
تاريخيا – وبما أن مركز المشكلة في الشرق الأوسط- فقبل قرون من الآن هناك ما يسمى ب” الحكم الشريف” أصدره السلطان سليمان القانوني ويعدّ وثيقة جيدة في هذا المضمار، كما كان الإمام سعيد النورسي – رحمه الله – مدرِكاً لهذا التحدي وخطورته المستقبلية، فقد أحَسَّ به في السنوات الأخيرة من حكم السلطان عبدالحميد الثاني، وشعوراً بالمسؤولية الدينية والقيادية تَحرَّكَ، ذهب الى إسطنبول وهناك قدم عريضة مفصلة الى السلطان، كان فيها الأهم من الأمور التي تحتاجها ” كردستان” كما ورد في سيرته الذاتية بناء على مبدأ الأخوة بين الجميع وان يكون لهم ما هو لغيرهم، يتصدر هذه المطاليب نشر العلوم والمعارف وتعيين معلمين يعلمون الطلاب باللغة المحلية، وإلا فإن إهمال النقاط الأساسية تلك تمهد لضربة عنيفة توجه إلى الأكراد في المستقبل” لكن السلطات حينئذ لم تتعامل بجدية مع ما طرحه عليها، وبدل العمل من أجل نشر العلوم وبناء المدارس، قابل ” شفيق باشا” وزير الأمن النورسيَ مخبرا إياه أن السلطان خصص له مرتباً شهرياً يصل الى ثلاثين ليرة، ثم قال له فيما يتعلق بغايته الأساسية ” إن اقتراحك بنشر المعارف والعلوم في كردستان هو الآن موضع دراسة في مجلس الوزراء1″.
لكن سعيد النورسي رفض تخصيص الراتب الشهري وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وقد صدَّقت الاحداث التي توالت نبوءة النورسي، كان ينظر بنور ربه.
إن مبدأ الأخوة الإسلامية عام مجرد، يصلح أن يكون مرجعاً كما طرحها الشيخ علي القَرَداغي، لكن البقاء في إطاره العام لن يكون حلاً بالنظر إلى التفاصيل التي أحدثها الفكر الغربي – ثقافياً وإدارياً – داخل المجتمعات في إطار مؤسسات الدولة الحديثة، كما أنَّ الرفض المبدئي الذي تبناه الفكر الإسلامي الحديث للأفضلية العرقية لا يُعالِج، المشاكل الكبيرة المؤلمة التي أقضت مضجع الشعوب المسلمة تحتاج إلى حلولٍ مفصّلة تكون بمستوى العصر ومشاكله، كما أن لغة العصر الحقوقية هي كذلك، ومن هذا المنطلق قال النورسي – رحمه الله- باقتران الأخوة بالعدل، وإن العدالة في كل المجالات من المقاصد الأساسية الأربعة للقرآن الكريم إلى جانب التوحيد والنبوّة والحشر، ولا تعمل العدالة من دون المساواة.
——
(1) السيرة الذاتية، 98و 564.