الحج.. الولادة الجديدة – خديجة رابعة
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: “كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه، فيصير حيا بذلك النفخ، و كان قبل ذلك من جملة الأموات، و كذلك لا حياة لروحه و قلبه حتى ينفخ فيه الرسول من الروح الذي ألقى إليه”.
إن للإنسان حياتين: الأولى بيولوجية تبدأ لحظة وجوده جنيناً في رحم أمه و تنتهي وقت مغادرته الدنيا. فبين الحياة والوفاة، أكل وشرب، نوم ويقظة، شغل وبطالة، عافية وسقم، زواج وإنجاب…
وأما الثانية فهي الحياة الإيمانية، وتبدأ يوم يباشر الإيمان بشاشة قلب الإنسان، يوم يشهد حقا وصدقا ألا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، يوم يجعل نفسه وقفا لله، مستسلما لأمره، راضيا بقضائه، وقّافاً عند حدوده. هذه الحياة الإيمانية ينتابها- ما ينتاب الحياة البيولوجية- من أسقام ووهن وكسل، وكما أن للأمراض الجسدية أدويتها فكذلك لأمراض الروح الأدوية الشافية والوصفات الواقية. إنها العبادات: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، الصيام يرفع منسوب التقوى، الزكاة تطهر من البخل والشح والأنانية، والحج الركن الخامس الذي مهما عددنا آثاره التربوية لن نحصيها، هذا المقال سيتطرق لبعضها. قال صلى الله عليه و سلم: “من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.”
الحج إذن ولادة جديدة…حياة جديدة…إيمان جديد. فما هو سر هذه العبادة ؟
وما هي القيم التي يزرعها في قلب الإنسان تجدد خلاياه الإيمانية، فيغدو كأنه مولود جديد ؟
1 – الحج استجابة لأذان إبراهيم عليه السلام.
قال الله تعالى لسيدنا إبراهيم: “وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.” الحج.27.
وقف إبراهيم في مكان غير ذي زرع، لم يكن أحد يسمعه، أمره الله تعالى بالأذان فأذن، كأن الله عز وجل يقول له: عليك الأذان وعلينا البلاغ. وكان من قدر الله وقدرته أن بلغت دعوة ابراهيم مسامع الناس من المشرق إلى المغرب، منذ ذلك الوقت إلى قيام الساعة. فترى كل حاج يجيب داعي الله قائلا: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ان الحمد و النعمة لك والملك، لا شريك لك.”
تلبية هي عنوان الإخلاص، عنوان توحيد رب العالمين و عدم الإشراك به نية وقولا وعملا، كما في حديث جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه و سلم قال: “فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد و النعمة لك والملك لا شريك لك لبيك.” رواه مسلم.
2 – “خذوا عني مناسككم.”
إن مدرسة الحج تربي الفرد على الاقتداء والتأسي بالنبي صلى عليه وسلم في جميع ما يأتي وما يذر. فكثيرة هي المناسك التي لا نعلم الحكمة من ورائها، هي توقيفية، نفعلها اتباعا لمحمد صلى الله عليه وسلم، و لعل موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكشف عن أهمية الاتباع في هذه المناسك، فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه عندما استلم الحجر الأسود، قال: أما و الله إني لأعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع و لولا إني رأيت النبي استلمك ما استلمتك.”
يستلم عمر الحجر، ويكشف عن نيته: اتباع المصطفى، وإن لم يظهر له المقصد.
3 – وحدة الأمة
إن شعيرة الحج تربي على استشعار الأخوة الإسلامية من خلال لقاء الحاج بإخوانه من شتى بقاع الأرض. الناس هناك سواسية، لباسهم واحد، أعمالهم و شعائرهم واحدة، قبلتهم واحدة، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لغني على فقير…
كلهم تجمعهم وحدة المشاعر، وحدة الشعائر، وحدة الهدف والقصد، ما أحوجنا أفرادا وجماعات إلى فقه هذه الرسائل التربوية العميقة في زمن غدت أمتنا قصعة تداعى إليها أكلتها، وما جرأهم عليها إلا ضعف وتصدع الجبهة الداخلية، واشتعال نيران الطائفية الهوجاء شرقا وغربا.
فهل من عودة إلى ثقافة الجسد الواحد التي قال فيها رسول الله، عن النعمان بن بشير قال، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
4 – ترويض النفس على الصبر وبذل الخير
قديما كان الناس يحجون على أرجلهم أو ممتطين دوابهم، يقطعون المسافات الطوال، منهم من يموت قبل أن يصل إلى بغيته، قد تستغرق رحلة الحج سنة أو أكثر، لذلك كان الحاج عندما يريد الخروج يودع وداعا حارا، لأنه قد لا يعود من هذه الرحلة الشاقة.
أما الآن، فالرحلة غدت أسهل، ما هي إلا ساعات، فيجد الحاج نفسه بأرض الحجاز، لكن و رغم تحسن الظروف، فالحاجة إلى ضبط النفس والصبر كبيرة.
في مكان محدود، يضم ملايين الحجاج، لابد للإنسان أن يستدعي صبره، حلمه، صفحه، تسامحه، وإيثاره، بل و كرمه وبذله و إحسانه.
إن الحج رحلة تسفر عن أخلاق الرجال، قال تعالى: “الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب “البقرة:197
5 – تعميق التقوى
منذ بداية الحج، والمسلم يراقب الله ويلزم باب التقوى، لا رفث، لا فسوق، لا جدال، قصده لله، دعاؤه لله، في زحام الطواف مع ألوف من الناس، يغض بصره، ويحفظ قلبه، وجوارحه عما لا يحل.
ما أحوجنا إلى هذه الشفافية الشعورية والحساسية الإيمانية.
وما أحوجنا إلى التقوى تؤطر علاقتنا الأسرية، العملية، والإجتماعية، إذ كلما عمق الإنسان التقوى في قلبه كلما غدا أكثر إخلاصا لرب العالمين، أكثر إتقانا في عمله، وأكثر جاذبية في أخلاقه.
6 – الأسرة الإبراهيمية و ذكريات أخرى
الحج يذكرنا بأبينا إبراهيم، توحيده، هجرته، تركه أسرته بجنب البيت العتيق، تقديمه محبة الله عز وجل على محابه الشخصية.
يذكرنا بأمنا هاجر الصبورة المتوكلة، وهي تودع إبراهيم و قد تركها وحدها مع وليدها بواد غير ذي زرع، تخاطبه قائلة: أ الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت في يقين: إذا لن يضيعنا. فلا زالت ساعية بين الصفا والمروة تنشد أسباب الرزق والنجاة لها ولوليدها، فكافأها رب العزة بزمزم، عين لا تنضب إلى قيام الساعة، وبتخليد فعلها ليصير ركنا من أركان الحج والعمرة.
ويذكرنا بإسماعيل عليه السلام، بطاعته لأبيه، باستسلامه لأمر الله: “يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين”، ويذكرنا برسول الله، بمكان ولادته، بأحب البقاع إلى قلبه : مكة.
يذكرنا بالحكاية من البداية، بما لاقاه الحبيب صلى الله عليه وسلم من أذى هو وصحابته الكرام، ببلال رضي الله عنه وهو يعذب تحت الرمضاء وهو ثابت يردد :أحد أحد…وبخباب وهو يشكو إلى رسول الله شدة العذاب، والرسول يؤكد له أنها مجرد أزمة وستمضي، وما بعدها سيكون التمكين للإسلام…
يذكرنا بالأنصار ومدينتهم، كيف احتضنوا الدعوة، وآووا المهاجرين وآثروهم على أنفسهم…
يذكرنا بالنفوس الكبيرة كيف تعيش لمبادئها، وتستعلي على مصالحها ، فيكون الجزاء تخليدا لذكرها في العالمين، ورفعا لمقامها يوم الدين.
وأخيرا… الحج عبادة عظيمة جمعت بين بركتي الزمان والمكان، عبادة حبلى بالقيم التي ما استوطنت ضمير الأمة – أفرادا أو جماعات- إلا ورفعتها إلى مشارف الحضارة.
فهنيئا لمن ذاق وعرف.
هنيئا لمن مارس واحتسب.
هنيئا له حجه المبرور… هنيئاً له الولادة الجديدة.