التربية الوالدية أو الفرصة التربوية الأخيرة – الحبيب عكي
كثيرة هي المهن المرموقة التي لا يحبها الأطفال، فقط لأنها في العمق أخذت منهم أبائهم واستحوذت عليهم في كل شيء، وليس على حساب صحتهم وتوازنهم فحسب، بل أيضا على حساب أبنائهم وأسرهم بالطبع، فهذا تلميذ قيض له أبوه المحامي والسياسي الكبير، والساكن على الدوام في ردهات المحاكم وقبة البرلمان، قيض له أستاذا للمراجعة والساعات الإضافية، وسائقا خاصا وطباخا ومحاسبا مكلفين بذلك وبكل شؤونه، وما أن اعتاد التلميذ على الأستاذ شيئا ما، حتى بدأ يتمرد عليه، وبقدر ما يجتهد الأستاذ في دعمه وتقويته وتحفيزه وإفهامه شتى المواضيع الدراسية والحياتية وبشتى الطرق، بقدر ما يتمرد عليه التلميذ ويتيه به في مواضيع جانبية وأسرية يبوح له فيها بأشياء غريبة ورغبات سخيفة، من الأكيد أنها لا تحضر على بال والديه.
كل رغبة التلميذ ألا يتلقى ساعات إضافية وألا يجتهد في الدراسة بل وألا يصبح لا ناجحا ولا موظفا على الإطلاق، لأنه حسب رغبته يريد الابتعاد عن المحاماة وعن السياسة والانتخابات التي أخذت منه سعادته، وقمة رغبته حسب تعبيره أيضا هي أن يتعلم العود والكمان و”الدربوكة والبندير”، ويصبح مطربا مشهورا في الفن “الشعبي” يحيي السهرات الهائجة والمائجة ” الطايح فيها أكثر من النايض”، كل رغبته أن تكون له دراجة هوائية مزرية دون منبه ولا حصارات، لكنها تحمله ليروج بها الممنوعات في مؤسسات المدينة، ويصطاد منها فتاة أو فتيات يقنعهن أو يغريهن حتى يكن له مساعدات وراقصات في سهراته، ولعله يقع يوما بين أيدي العدالة ويكون لأبيه ملفا دسما ينصب نفسه محاميا عليه، فيرشي القاضي في المحاكم ويؤدي للأطباء في المصحات، أو يتركه مرميا في السجن ولا يظنه يفعل ذلك، لأن سجن بيته أقسى عليه من كل السجون.
يعني، بأي حال من الأحوال، لا ينبغي للآباء أن يفرطوا في تربية أبنائهم وفلذات أكبادهم، ولا أن تكون تربيتهم لهم تربية هامشية وغير إيجابية، ولا أن يفوتوها لغيرهم من الأفراد أو المؤسسات، فيتركوهم يتامى على قيد الحياة على قول الشاعر:
ليس اليتيم من مات أبواه وخلفاه في الحيــاة ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أما تخلت أو أبا مشغولا
نعم، ولا غرابة أن يعلق أحد السوسيولوجيين على أن الطفولة عندنا قد تكون كلها من ذوي الاحتياجات الخاصة، على الأقل فيما يتعلق بمدى تواجد أبائها معها روحا وجسدا، قولا وفعلا، تربية واهتماما، حبا وعطفا، ولكن مع الأسف فهذا قد يتركهم للخدم والخادمات، وهذا للهواتف واللوحات والمواقع والفضائيات، وهذا للسمسرة في بعض الأندية والمؤسسات، وهذا في الشارع بين العصابات، وهذا..وهذا..وهذه..وهذه..حتى كان من عالم الطفل عندنا اليوم ما كان.
لا بديل عن تواجد الأسرة في حياة الطفل، والاهتمام بتربيته تربية إيجابية سليمة ومتكاملة، فالأسرة كما قلنا هي المدرسة الأولى، والآباء فيها هم المربون الأولون، وما غيرها وما غيرهم لن يكون في أقصى الحالات غير امتداد أو مكمل تربوي لا ينبغي الاعتماد عليه في غياب التربية الأساسية، كما لا يمكن الاعتماد على المكمل الغذائي في غياب التغذية الصحيحة التي تضمن حياة الطفل ونموه وتوازنه، لا للاعتماد على مؤسسات غير البيت بالدرجة الأولى، روضة كانت أو مدرسة أو جمعية، فلنحذر كل الحذر فشخصية الطفل كما يقال تتكون %90 منها في السنوات الست الأولى ولا يتاح له هذا إلا في البيت ومع والديه وأقاربه، وفي البيت ضيعت اللبن، والطفل مطبوع على القبول والمحاكاة والتقليد والاستجابة والتبني الفطري للتصرفات والآداب والقيم والعقائد والأخلاق التي تكون فيما بعد كنه شخصيته العامة، ولا يتاح له هذا إلا في الأجواء الأسرية التربوية الآمنة والمتواصلة، وفي هذه الأجواء – مع الأسف – كانت ولا تزال تتنامى الاستقالة والإهمال.
إن التربية “الوالدية” حق لجميع الأطفال، كما في الحديث:”إن لولدك عليك حقا”، وهي الفرصة الأخيرة لبناء أطفال أسوياء وأقوياء نبهاء وأذكياء، وهو المدخل الحقيقي لإصلاح المجتمع، ووقايته من العديد من الظواهر المشينة التي يعاني منها خاصة في صفوف النشء كالاضطراب النفسي والسلوكي الذي يتمظهر بعدة مظاهر سلبية كالاستهانة بالقيم، وإهمال العبادات، وسب الملة والدين، وتحقير المواطنين وتدمير الممتلكات العمومية في المدارس والملاعب وتلويث الحدائق والشواطئ..، العنف والتطرف والإدمان، التحرش والانحراف والغش والانجراف…
غير أن التربية “الوالدية” الصحيحة ليست أية تربية على الغارب، بل لابد لها من أن تكون لها خصائص ومقومات وأهداف ومرتكزات تجعل منها في الأول وفي الأخير تربية إيجابية وسليمة، سلمية ومتكاملة، ومن أجل ذلك:
1 – لابد أن تكون تربية ذات مرجعية ورؤية وأهداف تربوية واضحة ووسائل مسعفة.
2 – أن نحذر فيها من قولهم:”في الصيف ضيعت اللبن”وقولهم:”لقد عققته قبل أن يعقك”.
3 – أن تراعى فيها مراحل النمو عند الطفل، وقدراته على التحمل والاستيعاب وحاجاته النفسية والجسدية، والحس حركية..، فما بالك بحاجته في العقائد والعبادات والآداب والأخلاق، وفي الأحكام الشرعية، وغير ذلك مما يلزمه، كما أن هذه التربية تشمل كل المراحل وكل الفئات والأجناس لكن بأساليب مختلفة كما في الأثر:” لاعبه سبعا، وأدبه سبعا، ورافقه سبعا، ثم اترك أمره لله”.
4 – تأهيل الآباء والأقرباء لكذا تربية على أوسع نطاق ممكن، وأن يكون الروض والمدرسة والجمعية والإعلام يتناغمون مع هذه التربية الإيجابية في توجهاتها واختياراتها، القيمية والوطنية والحضارية لا أن يناقضوها ويهدموها ويقصفوها وينسفوها على القوم وأبنائهم نسفا.
5 – واعلم أن الآباء وبحكم التربية والظروف قد يكونون متسلطين أو ديمقراطيين أو مهملين، فاحذر أن تكون متسلطا أو مهملا، وديدنك كما يقول المربون:”شدة من غير قسوة، ولين من غير ضعف” والله يعطي على الرفق واللذة والحوار والتوافق ما لا يعطي على الشدة والألم والإجبار.
6 – وتذكر أن روائنا من الإرث التربوي للماضي لا يغني عن ضرورة الانفتاح على الإبداع في الحاضر والمستقبل، فأبناؤنا كما يقال خلقوا لزمن غير زماننا، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون هو وأبناؤه بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه، من هنا سؤال ملح الأسرة والبدائل التربوية.
ولنتذكر أن تربية اليوم هي حصاد الغد، وكما يقول المربون:”من يزرع التسلط والانقياد حصد الرفض والعناد، ومن يزرع الحقد والكراهية حصد العدوان والتدمير، ومن يزرع السخرية والتعيير حصد عقدة الاضطراب والتقصير، وبالمقابل من يزرع التسامح والتعايش حصد الصبر وتقبل الآخرين، ومن يزرع التقدير والتشجيع حصد الثقة بالنفس والمبادرة والإبداع، ومن يزرع العدل والإنصاف حصد الوفاء بالحقوق، ومن يزرع الرضا والقبول حصد الثقة والتوكل، ومن يزرع الصداقة حصد المحبة، ورأس الأمر كله في مشاعر المحبة والحنان، فازرع ما شئت فكما يكون الزرع يكون الحصاد.
كما أن هذه التربية “الوالدية” الإيجابية أو التربية الأس والأساس أو الفرصة التربوية الأخيرة، لابد لها من لمسة إنسانية كما يقول الدكتور “محمد بدري” في كتابه القيم “لمحات في فن التعامل مع الأبناء”، لمسات ضرورية حتى لا تكون التربية سوطا يلهب الظهور لكنه لا يزكي النفوس ويرقق القلوب، لمسات تربوية عميقة لخصها في 10 عناصر نذكر عناوينها ولكم البحث عن تفاصيلها في الكتاب، يقول الدكتور:”من تريد تربيته، فلابد:”استمع إليه – احترم مشاعره – حرك رغبته – قدر جهوده – مده بالأخبار- دربه – أرشده – تفهم تفرده – أتصل به – أكرمه…، إلى أن يقول ولابد لكل هذا من جو تربوي مفعم ب: الأمن والأمان – الحرية والمشاركة – مراعاة الفروق الفردية – رسالة ورؤية تربوية واضحة – المرونة – الاحترام – الرعاية والتشجيع – المتعة والإثارة” والله الموفق .