التدليس في خطاب التيار الحداثي حول تغيير مدونة الأسرة
قام ملك البلاد مؤخرا بإحالة مشروع إصلاح مدونة الأسرة إلى المجلس الأعلى العلمي ليقول كلمته النهائية حول تعديله بما يوافق الشرع الاسلامي ومقاصده، وهو المشروع الذي سهرت على إنجازه الهيئة المكلفة بتعديل مدونة الأسرة. وقد صاحب عمل اللجنة جدل واسع بين التيار الحداثي الذي اعتقد أنها فرصته التاريخية لفرض أرائه على اللجنة مادام أفراده يتحكمون في مؤسسات الدولة من جهة، ومن جهة أخرى التيار المحافظ بتشكيلاته المتنوعة، الذي وجد نفسه مقصيا تقريبا من مؤسسات الدولة وخاصة الإعلامية منها التي فرضت عليه حظرا مقصودا، ولم تسمح له بالولوج إليها للتعبير عن مواقفه وأرائه ومجادلة التيار الحداثي، ولم يجد أمامه سوى الإعلام البديل ومخاطبة المجتمع مباشرة من خلال المحاضرات والندوات التي كانت تؤطرها جمعيات المجتمع المدني.
وبالنظر إلى أن التيار الحداثي هو من فرض الجدل بمواقفه المثيرة للخلاف فقد ارتأيت أن أتوقف عند بعض مقولاته التي يزعم أنها ضرورية لإصلاح المدونة بل تغييرها، لإنصاف المرأة تحت زعمهم وهي وقفة منهجية بالأساس.
فقد لاحظت أن خطاب هذا التيار اعتمد على منهج التدليس في محاولة منه لاستقطاب الرأي العام الى جانبه، و قبل أن أقف على مكامن التدليس في خطابه فلابد من الوقوف عند تعريف التدليس. فالتدليس لغة هو الإخفاء والكتم، واصطلاحا التدليس في الخطاب هو إخفاء وكتمان قضايا وإظهار قضايا أخرى ذات قبول لدى المتلقي وبالتالي إيهام القارئ أن هذه القضايا صائبة لا يعتريها أي عور أو فساد، فهو يقوم بالتمويه على القارئ حتى لا يكشف العور الموجود في نظامه المعرفي فهو يدخل في دائرة التمويه وتزييف وعي المتلقي.
فالتيار الحداثي في حججه للمطالبة بتغيير مدونة الأسرة مارس التدليس بطريقة ممنهجة، ولكشف هذا التدليس لابد من استحضار مفهوم مركزي في خطابه أو جهازه المفاهيمي حاول إضماره في مطالبه التي قدمها للجنة حتى لا يقع في صدام مع المجتمع وهو مفهوم الحريات الفردية، الذي من خلال استحضاره سيجعلنا نكتشف التدليس الممارس على القارئ، و هذا ما سأعمل على توضيحه من خلال القضايا التالية:
القضية الأولى هي الدعوة إلى التغيير الشامل لمدونة الأسرة :
دعا هذا التيار إلى تغيير شامل لمدونة الأسرة لتحقيق المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة والعدل والإنصاف والتعاون .. ولكن دون تحديد لمفهوم الأسرة حتى نعرف عن أية أسرة يتحدث وهنا يكمن التدليس. فيتعمد الحديث مباشرة عن القيم التي يدعو إليه مثل المساواة، العدل، الإنصاف … فهو يظهر القيم التي يريدها ويضمر المفهوم، باعتبارها قيم ذات شحنات عاطفية تساعده في تيسير عملية إقناع عموم الناس بمقترحاته، وفي نفس الوقت يضمر المفهوم الذي يوضح جوهر مطالبه والقيم المرتبطة به والهدف النهائي منه. فعدم تحديد المفهوم يجعل القارئ يتوهم أن هذا التيار يتحدث عن مفهوم الأسرة الشرعي الدارج، التي يعرفها الجميع، ومقترحاته فقط لإصلاحها وجعلها أكثر فاعلية، وهنا يكمن كما قلت سابقا التدليس بإخفاء مفهوم الأسرة عنده. وبالرجوع إلى المنظومة الليبرالية التي ينطلق منها وباستدعاء مفهوم الحريات الفردية يتأكد أن عدم طرحه لمفهوم الأسرة وتركيزه على القيم هي عملية تدليس لإخفاء مفهومه للأسرة الذي يراد أن يسود في المجتمعات.
وبالرجوع إلى الاتفاقيات الدولية التي تشكل مرجعا رئيسيا لمطالبه نجد أنها تضع مفهوما عائما وسائلا للأسرة، فهي تجمع لشخصين وكفى دون تعيينهما، فمن الممكن أن يكون امرأة ورجل وممكن أن يكون رجلا ورجل وممكن أن يكون امرأة امرأة ويمكن أن يكون أخا وأختا … بمعنى أن الاتفاقيات الدولية تضع مفهوما سائلا وليس صلبا يحتمل أشكالا متعددة، وهذا ما يناقض المفهوم الشرعي للآسرة التي يعرفها الجميع وهي خلية تجمع بين ذكر وأنثى بعد زواج شرعي .. وهنا يتأكد أن عدم تحديد هذا التيار للمفهوم عملية مقصودة حتى لا ينكشف جهازه المفاهيمي أمام الرأي العام والذي يراد من خلاله إعادة بناء المجتمع على أساسه، مجتمع حداثي لا علاقة له بالمجتمع الاسلامي ذو الجهاز المفاهيمي الخاص به.
وللزيادة في حدة التدليس والتمويه بعد تعميته على مفهوم الأسرة انتقل هذا التيار للحديث عن أشكال متعددة للأسرة، باعتبارها مرادفا للمفاهيم المتعددة للأسرة الذي تتحدث عنه الاتفاقيات الدولية، بمعنى أن المفهوم متجسد عمليا في المغرب. فالتدليس هنا واضح من خلال دمجه للشكل بالمفهوم، والحقيقة أن هذه الأشكال ناتجة عن الأصل، فهي أحداث استثنائية أصابت الأسرة، يعني حدث تغير جزئي واستثنائي على شكل الأسرة الأصلي وليس على مفهوم الأسرة، مثلا في حالة وفاة الوالد تصبح الأسرة تتشكل من الأم والأولاد، أو وفاة الّأم فتصبح الأسرة تتشكل من الأب والأولاد، أو وفاة الوالدين فتصبح الأسرة تتشكل من الأبناء اليتامى فقط وهكذا، وبالتالي هذه الأشكال لا تخرج عن المفهوم الشرعي للأسرة. وبالرجوع إلى مفهوم الحريات الفردية يتأكد أن هذا التدليس المراد منه إيهام المتلقي أنه يتحدث عن الأسرة التي يعرفها وهو في الحقيقة يضمرون هدفا أساسيا هو التغيير الشامل لنظام الأسرة من نظام قائم على الشروط الشرعية إلى نظام أسرة قائم على الإرادة الفردية التي لا تعترضها أي إرادة خارجية ، يتقبل جميع أشكال التلاقي بين اثنين، وتجاوز الشكل الصلب للأسرة الذي يتبناه الإسلام ويدعو إليه.
القضية الثانية هي المرجعية المعتمدة في إصلاح مدونة الأسرة:
يمارس فيها التيار الحداثي التدليس فهو يزعم أنه يطالب بممارسة حق الاجتهاد من داخل النص الشرعي لتغيير قوانين الأسرة من أجل تحقيق المساواة والعدل والإنصاف .. وهي قيم في جوهرها إسلامية، فيتوهم القارئ أن المرجعية التي يعتمدها في إصلاح المدونة هي المرجعية الإسلامية مع الانفتاح على الاتفاقيات الدولية. لكن الذي يحلل خطابه سيجد أنه يمارس التدليس على القارئ بشكل فج، بحيث يخفي المرجعية المعتمدة عنده في مطالبه لإصلاح الأسرة وهي الاتفاقيات الدولية ذات المرجعية الليبرالية المتوحشة التي يجب اعتمادها بشكل حرفي في وضع القوانين المؤطرة للأسرة، فهي تعلو ولا يعلى عليها، وفي حالة تعارضها مع الأحكام الشرعية فيجب العمل بالاجتهاد لتكييف النص الشرعي مع الاتفاقيات أو تعطيل النصوص الشرعية وليس العكس، ومن تم القوانين المنظمة للأسرة في المغرب يجب أن تخضع لها ما دام المغرب صادق على تلك الاتفاقيات، فإذن مرجعيتهم ليس النص الشرعي والاجتهاد فيه وإنما الاتفاقيات الدولية وهنا يكمن التدليس.
القضية الثالثة هي الدعوة إلى تجريم زواج القاصر :
يعتبر هذا التيار زواج القاصر ظاهرة سلبية ترقى إلى جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون، فالقاصر مكانها المدرسة واللعب وليس تحمل مسؤولية أسرة. ولبناء تدليس محكم ينطلق من مقدمة يعتبرها مسلمة وهي أن هدف الزواج هو بناء أسرة والتي تشكيلها معقد وتتطلب قدرات لا تتوفر في القاصر، فالزواج هنا هدفه بناء أسرة وليس شيئا آخر، وبالتالي النتيجة التي يخرج بها القارئ تلقائيا هي عدم السماح بزواج القاصر وتجريمه. والتدليس هنا واضح في الهدف حيث يظهرون أن الزواج هدفه الأساس هو تكوين أسرة ويضمر نهائيا هدف الممارسة الجنسية، السؤال لماذا تعمد عدم الاشارة للممارسة الجنسية كهدف للزواج؟ الجواب واضح باستدعاء مفهوم الحريات الفردية الذي يجعل الممارسة الجنسية حق طبيعي يمارسه الفرد متى شاء وفي أي فترة عمرية دون ضوابط أو عوائق خارجية، فالفتى أو الفتاة عندما تصل الى سن المراهقة لها الحق في إشباع غرائزها الجنسية بأي طريقة شاءت، في حين ثقافة المجتمع ترى بأن الغريزة الجنسية يجب تصريفها من خلال قناة وحيدة وهي الزواج ، فالزواج هدفه الأساسي هو ممارسة الغريزة الجنسية وإشباعها ، فالشاب عندما يقرر الزواج فهو ينطلق من خلفية ممارسة الغريزة الجنسية بطريقة شرعية، وتحصين نفسه من الحرام كما هو دارج عندنا (باغي نتزوج باش نحصن راسي)، وما يأتي بعده من أولاد فهو تبع لذلك. فالتدليس هنا واضح في المقدمة عندما تجعل الزواج هدفه تكوين أسرة وليس ممارسة الجنس.
فرؤيتهم للجنس تتصادم مع الرؤية الإسلامية وبالتالي مع المجتمع الذي لن يقبل ذلك، ولتجنب الصدام معه تم اللجوء لتدليس من أجل تمرير ذلك بطريقة ذكية، فالفتاة تمنع قانونا من الزواج ولكن لا تمنع من ممارسة حقها الطبيعي في الجنس بل على الدولة أن تضمن لها ذلك وتوفر الشروط الصحية للفتاة من خلال التربية الجنسية، وإذا أردنا أن نضع الأمر في معادلة مختصرة تكن كالتالي:
– ممارسة القاصر للجنس من خلال الزواح جريمة.
– ممارسة الجنس خارج الزواج حق طبيعي .
وإذا ذهبنا مع رؤيته في اتجاه متقدم نصل إلى نتيجة مهمة هي مرحلة الحمل والإنجاب، فالفتاة القاصر عندما تمارس الجنس يمكنها أن تحمل سواء في حالة الزواج أو خارج الزواج، إلا أن حملها وإنجابها في إطار الزواج هو جريمة في حق الفتاة القاصر التي لا زالت لم تصل إلى مرحلة تحمل المسؤولية والقدرة على تربية الأطفال، فبدل أن تدرس وتلعب تجد نفسها تتحمل مسؤولية غير مستعدة لها وهذا عين الإجرام. في المقابل ممارسة الفتاة القاصر للجنس خارج إطار حق طبيعي للفتاة القاصر لا يجب أن يعترض عليه أحد لأنها من الحقوق الفردية، وإذا حدث وأصبحت الفتاة حامل ثم أما فإن الدولة يجب أن تتحمل مسؤوليتها بالاعتراف بمفهوم الأم العازبة، والتي يجب أن توفر لها جميع شروط الحياة الكريمة وظروف ملائمة لتربية ابنها تربية سليمة، وهنا تصبح الفتاة لها القدرة على تحمل مسؤولية أسرة بدون إشكال … فيتأكد لنا أن هدفه ليس حماية الفتاة القاصر وإنما التمكين لقيم غريبة عن المجتمع من خلال سن هذا القانون.
القضية الرابعة هي ضرورة تغيير منظومة الإرث :
يدعوا هذا التيار إلى تغيير منظومة الإرث في اتجاه تكريس المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى بإلغاء مبدأ للذكر مثل حظ الاثنين ومبدأ التعصيب، ووجه التدليس يكمن في إضمار النموذج الإرثي المراد تطبيقه وإبراز قيمة المساواة، ولكشف ذلك لابد من الوقوف عند رؤيتهم لماهية المال بمعنى من هو صاحب المال الأصلي، ففي الرؤية الإسلامية المال مال الله والإنسان مستخلف عليه والتصرف فيه يجب أن يخضع للضوابط الشرعية من خلال دائرة الحلال والحرام وبالتالي ليس له الحق في التصرف المطلق كيف شاء في حياته وبالأحرى بعد مماته. أما في الرؤية الليبرالية فالمال مال صاحبه يفعل فيه ما يشاء أثناء حياته وبعد مماته، فمادام هو صاحب المال الأصلي فله الحق في التصرف المطلق في ماله، فإذا كان القانون ينص على المساواة في الإرث فيمنحه في المقابل الحق المطلق في الوصية، حيث للمالك الحق أن يوصي بتركته لمن يشاء، هنا يصبح توزيع التركة خاضع للإرادة الفردية، فيصبح توزيع التركة خاضع لإرادة الهالك وليس للشرع ولا حتى للقانون المراد تطبيقه، فإذا كان توزيع التركة في المنظور الإسلامي خاضع للإرادة الربانية التي اقتضت تقسيم الإرث بتلك الطريقة، والجميع له حقه المعلوم حسب درجة القرابة تحقيقا لمقصد العدل، فإن توزيع التركة في الرؤية الليبرالية تخضع لإرادة الفرد، فإذا أراد أن يترك التركة للورثة يوزعونها حسب القانون فله ذلك وإذا أراد أن يوزعها من خلال الوصية فله ذلك أيضا، فيصبح من حقه أن يوصي بماله كله لمن شاء وحرمان الباقي منه فمثلا يوصي بماله لجمعية أو خليلة أو حيوان أو أحد الأبناء كما هو معمول به في الدول الغربية … وبهذا ينتفي مبدأ المساواة ويتكرس مبدأ اللامساواة والظلم.
والتدليس الأكثر وضوحا هنا هي المرجعية المعتمدة في تغيير الإرث فيظهر أن دعاواه جاءت استجابة لحاجات الواقع وإعمالا لمبدأ الاجتهاد من داخل النص الشرعي، أي المرجعية هي النصوص الشرعية التي تخضع لعملية الاجتهاد الشرعي، ويضمر المرجعية الحقيقة وهي الاتفاقيات الدولية، فالقارئ المتفحص سيجد أن مطلبهم هذا إنما هي ترديد لمطالب المؤسسات الدولية التي تعمل على فرض بنود الاتفاقيات الدولية ذات الصلة. وطريقته في معالجته لقضية الإرث تقوم على التبسيط في موضوع يعتبر منظومة نسقية مركبة لا يفيد معها منهج التبسيط والاختزال، فالإرث في الإسلام يرتبط بدرجة القرابة وبالإقبال على الحياة أو الإدبار وحفظ النسب ومرتبط بالوظائف والواجبات الملقاة على عاتق الإخوة والإخوات والأقارب، فالذكر مثلا مكلف وجوبا بالإنفاق على الأسرة من الوالدين إلى الأخوات والعمات والخالات وتشكيل أسرة والإنفاق عليها، والأعمام والأخوال مكلفون برعاية اليتامى من إخوانهم أو أخواتهم وهكذا ، وفي المقابل المرأة معفية منها وغير مكلفة بذلك، وفي فلسفة التشريع هناك فرق كبير بين الواجب أو الفرض وبين الإعفاء أو ما يسمى بدائرة العفو، فالبنت معفية من الإنفاق وإذا أرادت فعل ذلك فتطوعا منها فقط وليس إلزاما لها، فقاعدة الوجوب لا تلغيها حالة الاستثناء أو التطوع، فإذا أردنا أن نأخذ بمبدأ المساواة فيعني ذلك تغيير فلسفة الإنفاق بالكامل حيث يصبح الذكر والأنثى كلاهما خاضع لمنطق الفرض. وباستحضار مبدأ الوجوب والفرض الذي يلزم الرجل ودائرة العفو الذي تتمتع به المرأة يمكن فهم فلسفة الإرث في الإسلام، باعتباره منظومة معقدة، لا يمكن التعامل معه بتلك الطريقة الكاريكاتورية المخلة بأبسط أبجديات البحث العلمي.
القضية الخامسة وهي الاستناد في مطالبه على معطيات الواقعية:
يؤكد هذا التيار على أن مطالبته بتغيير المدونة يستند على معطيات واقعية تفرض ذلك، مثل زواج القاصر والتعدد والمساواة في الإرث … فهو يزعم اعتماده على معطيات الواقع ولكن يضمر الإحصائيات التي تثبت ذلك أو تنفيه وهذا عين التدليس. فمثلا في حديثه عن زواج القاصر يؤكد أنها ظاهرة سلبية ومنتشرة في المجتمع تستدعي تدخل الدولة لوقفها، ولكن إذا أخذنا المعطيات الإحصائية نجدها تثبت أن نسبتها ضعيفة جدا ولا تشكل ظاهرة ولو بسيطة، وهذه النسبة مرتبطة بأوضاع اجتماعية قاهرة تفرض ذلك الزواج، فإذا أخذنا آخر استبيان قامت به النيابة العامة حول زواج القاصرات نجد أنها أكدت على أن نسبتها ضعيفة جدا لا تتعدى 7% حاليا، وأن غالبيتهن انقطعن عن الدراسة ويعانين من الهدر المدرسي، وبالتالي الزواج لم يكن سببا في انقطاعهن عن الدراسة كما يدعي هؤلاء، كما أن فقر بعض الأسر- خاصة في العالم القروي- يجعل الفتاة تفضل الزواج حتى تخفف العبء عن الأسرة وبحثا عن ظروف عيش أفضل، ثم حالات عديدة عاطفية تنشأ بين الفتاة والشاب اللذين يرفضان ممارسة الزنا ويفضلان العلاقة الشرعية. وبذلك يتأكد أن زواج القاصر ليست ظاهرة وإنما حالات معزولة يفرضها الواقع ولا يمكن مواجهتها بالمنع وإنما إيجاد حلول لتغيير ذلك الواقع.
والحالة الثانية التعدد الذي طالب هذا التيار بإلغائه وشن عليه حملة هوجاء باعتباره ظاهرة واقعية مستشرية يجب القضاء عليه، لكن الإحصائيات تثبت عكس ذلك فنسبتها متدنية لا تتجاوز 0.6 % حسب التقرير الأخير للمجلس الأعلى للقضاء فهي حالة استثنائية جدا لا تشكل ظاهرة ومرتبطة بظروف معينة تستدعي ذلك.
وفي المقابل نجده لا يلتفت إطلاقا لظواهر سلبية، أكثر خطورة، منتشرة في المجتمع، فالإحصائيات تتحدث عن ظاهرة مستشرية في المجتمع وأصبحت تشكل واقعا مريرا هي ظاهرة العنوسة والتي وصلت إلى 40% حسب إحصائية المندوبية السامية للتخطيط ، فقد أكدت أن نسبة العنوسة مرتفعة بشكل مهول، بحيث أصبحت أكثر من ثمانية ملايين فتاة بدون زواج، وهذه مشكلة اجتماعية حقيقية وواقعية يجب معالجتها، بيد أن هذا التيار لا يعيرها أي اهتمام، لأن منظومته الفلسفية لا تعتبرها إشكالا مادامت الغريزة الجنسية يمكن ممارستها بأي طريقة كانت مادامت حقا فرديا ليس شرطه الزواج. لكن في منظومتنا الثقافية تعتبر العنوسة مشكلة حقيقية، لذلك يجب البحث لها عن حلول من بينها تشجيع التعدد وليس منعه، بمعنى أن معطيات الواقع تفرض تخفيف القيود عن التعدد باعتبار الزواج حق لكل فتاة، مادام أن الغريزة الجنسية لا يمكن ممارستها إلا في إطار الزواج.
وخلاصة القول إن التيار الحداثي عندما يطالب بتغيير المدونة ليس منطلقه حاجات الواقع وما يفرضه من شروط الاجتهاد لتغيير الأحكام، وإنما تصورات معرفية أيديولوجية مرتبطة بنسق فكري مغاير لمنظومتنا الفلسفية، تسعى إلى بناء نظام اجتماعي جديد على أسسها شبيه بالنظام الغربي، ولتحقيق ذلك يمارس عملية التدليس الفاحش فيما يتعلق بالمرجعيات والمفاهيم ومعطيات الواقع. إذا الصراع ليس بين من يريد تحقيق المساواة والعدالة في الأسرة ومن يرفضها وإنما صراع بين من يريد إعادة بناء نظام اجتماعي مندمج بشكل أعمى في العولمة الليبرالية المتوحشة وبين من يعمل للحفاظ على نظامه الاجتماعي الإسلامي وتطويره انطلاقا من الشرع والتجربة البشرية، حتى يتمكن الصمود في وجه العولمة ويكون بديلا للنموذج الليبرالي المتوحش.
أحمد العثماني