الإرتقاء المنهجي الى المنظومة المقاصدية – شيروان الشميراني
الدافع لكتابة هذا المقال وموضوعه هو الكتاب الحديث صدورا ومضمونا واتجاها للدكتور علي محي الدين القرَة داغي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الصادر في ديسمبر 2023، بعنوان” الارتقاء من مقاصد الشريعة إلى المنظومة المقاصدية”(1)، ليست غاية المقال هذا قراءةٌ للكتاب الممتع، بقدر ما هو تعريف بالموضوع و لفت الأنظار إلى أهميته، حيث الحاجة الى الدفع بالفكر الإسلامي الى الامام، أو إعادة صياغة القديم النافع للحاضر في قوالب منهجية جديدة وتوجيه المادة المعرفية بما يخدم الرؤية الإسلامية للحياة وبنائها.
هو كتاب في باب المقاصد، يعتمد على ما بدأ يلاصق -مؤخرا- المنتجات العلمية للأستاذ المؤلف ” فقه الميزان” لكنه يتناول مجالات معرفية عدة بالارتكاز على علم أصول الفقه ومقاصد الإسلام العامة، هنا أتعرض إلى الجانب الفكري منه وأثر المقاصد عليه ودوره في تسديده حيث أنّ الكتاب عمل منهجي يتسع لعلم الشرع والفقه والفكر وميادين التنمية والاقتصاد والعالم المادي المحسوس.
1 – الحديث عن الارتقاء المنهجي وجعل المقاصد منظومة وليس علماً محدداً محصوراً يُعتبر مراجعة له وتقييم، ليس مراجعة الناقد وتشخيص الأخطاء كما هو معلوم في التفكير النقدي السلبي، فكل ما هو متداول ومسجل في مؤلفات المقاصد منذ “إمام الحرمين الجويني” لغاية الآن وفق ضوابطه الشرعية منطلقاً وغايات، كله صحيح ومعتبر، ومن العلوم التي كان له الأثر الكبير في توجيه الفكر والاجتهاد، لكن بما أنّه علم استنبطه العقل الإسلامي المنضبط، فالمراجعة من البديهيات، المراجعة من أجل تشخيص مواطن النقص وتلبية الحاجات المتجددة نظراً لتطورات الحياة. ومنها ملاحظته أن بعض المصنفات تخلط بين جملة من المقاصد وهي مختلفة وليست واحدة.
2- توسعة – نوعاً وعدداً – لعلم المقاصد، ومغادرة الدائرة المعروفة تاريخياً بمقاصد الشريعة، إلى تحديد الغاية من كل نص شرعي أمراً ونهياً وإرشاداً وغيرها، مقاصد الله تعالى في خلق الكون وفي خلق الانسان والملائكة وفي إنزال الكتب وإرسال الرسل وهبوط الإنسان إلى الأرض، وبهذا تكون تلك المشهورة بمقاصد الشريعة في العلم الشرعي مكوناً واحداً من هذه المنظومة وليست كلها، فالمنظومة هي :”(ربط الجانب الفكري) التصورات و(الجانب العملي) التصرفات كلها بمقاصد الخلق (للكون، والإنسان)، ومقاصد الشريعة العامة والخاصة والجزئية، ومقاصد المكلفين ونيّاتهم وفقه المآلات وسدّ الذرائع”، كما أصبحت العلة الواقفة وراء الحكم من ضمن المقاصد التي هي الغايات المتوخاة تحقيقها من كل نص شرعي. وكذلك الجانب العقدي، في الايمان بالله وخلق الملائكة والجن وخلق الكون وخلق الإنسان والجنة والنار والمقاصد العامة للإسلام. وبهذا خرج من الإطار التقليدي المعروف وعدَّ منها ثمانية أنواع، السابع منها هو ” مقاصد الشريعة” إضافةً إلى مقاصد المكلفين التي وضعها في النوع الثامن. وإلى جانب المقاصد الخمسة – بعض العلماء يجعلونها ستة – عبر التاريخ، فقد وضع مقصِدَين آخرين إلى جنبها وهما ” أمن المجتمع، وأمن الدولة” وبذلك يجعلها ثمانية هي أيضاً بالاعتماد على العنصرين اللذين ينبغي توفرهما عند تحديد المقصد لدى العلماء، وهما جانبا الإيجاب والسلب، لكن حتى مع ازدياد العدد إلى ثمانية فهي تبقى ركناً واحداً من المنظومة المقاصدية الشاملة.
إنّ قضية العلة ومسألة كونها من المقاصد أم لا، أو هل يمكن أن يكون المقصد علة للحكم، قضية تاريخية خلافية بين أهل الإختصاص، جعل الأستاذ علي القَرَة داغي العلة من ضمن المقاصد، والمقصد المنضبط في غير الأمور العبادية التي هي توقيفية ولا يمكن القياس عليها يمكن ان يكون حجة للمفتي في إصدار الحكم أو الاجتهاد. وبهذا المعنى تشمل المقاصدُ العلةَ والحكمة والأسرار التي قصدها الشارع في شريعته، كما أن فقه المآلات وسدّ الذرائع وفتحه من مكملات المنظومة المقاصدية.
3 – هي تعميق لعلم المقاصد، والعودة به الى الأساس، إلى الغاية من خلق الكون والإنسان، يقول:” المنهجية الصحيحة في نظري أن يبدأ علم المقاصد بمقاصد خلق الإنسان الشاملة لكفتي ميزانه، وهما كفة التعبد الخالص والشعائر وكفة العمران بمعناه الشامل”، وهنا قد يكون الفرق بينه وبين غيره هو في الترتيب والتبويب، بمعنى أن هناك من خاض في هذا المجال، لكن من دون الخروج عن التصنيف التقليدي للمقاصد وتحت عنوان الشريعة، لأن الشريعة المتعارف بأنها الجانب العملي، في حين إن جزءاً مما أُدرِج فيها هو من مقصد خلق الإنسان أو الكون. إنّ الحديث عن غاية خلق الانسان التي هي خوض غمار عالم المادة والنبش في أسرارها كجزء من المهمة التي خلق الله الانسان من أجلها وأنزل به الى الأرض له أهميته، فهو إمّا مُكمّل للعبادة التقديسية المتجهة الى الله سبحانه، أو من العبودية ذاتها بمعناها الشامل حسب النية والباعث.
4 – محاولته رفع المقاصد إلى ما وصل اليه الفكر الإسلامي المعاصر ويخوض صراعاً مريراً حوله، أي الجانب الحضاري، ما يسميه مستمداً من التعبير القرآني ب ” العُمران”، لأنّ مقاصد الشريعة بصورتها المعهودة تنحصر في مقاصد الشريعة العامة والخاصة والجزئية التي تركز على الاحكام الشرعية في غير نطاق العمران، فهي تمثل ” مقصد التقديس والتسبيح” ولا تتناول الكفة الثانية المتمثلة في ” مقصد العُمْران”.
والعُمْران هو الطرف المكمل للمهمة الأساسية والغاية من خلق الإنسان المحددة ب ” الخلافة” في شقيها العبادي والعمراني، الشيخ علي القرة داغي يلاحظ غياب مقصد العمران لدى الكثيرين ممن كتبوا عن مقاصد الشريعة حيث ركزوا على الكليات الخمس أو الست، والعمران هو بناء الحياة وتعمير الإنسان والأرض وفق المنهج الإلهي على قانون التسخير والاستعمار المكلف به الانسان، أي التعامل مع الجانب المادي في الكون من أجل إعماره، فكما أن البحث عن القوانين الحاكمة في حركة الكون كله من مهام العقل وهي ترشد الإنسان في جانب منها إلى وجود الخالق الواحد والتعرف على صفاته، كذلك من أجل التعرف على طبيعة هذا الكون لرسم الخطط التي من خلالها تُعَمّر الأرض وتكون صالحةً للحياة عليها ولائقةً بخليفة الله سبحانه فيها. فالعمران أو البناء الحضاري عندما يتحول إلى مقصد من مقاصد الإسلام في منظومته الكاملة الشاملة يكون علم المقاصد قد دخل في دائرة الصراع الحضاري مع الآخر، الآخر الذي يبني هذه الحضارة بناءً منزوعاً منه العمران المعنوي للإنسان، الكفة المكملة لمقصد العُمران. غاية الغايات أو المقصد الأعظم ” التقديس والإعمار”.
ومما تحدث عنه محاولاً تبيين دور المنظومة المقاصدية في توجيهها: مجالات الاقتصاد والصيرفة والعقود والتنمية والوقف والبيئة والحوكمة. وكلها من المفاهيم الفكرية الحديثة تتعلق بحركة الحياة.
قَبْلَ الأستاذ علي القَرَة داغي، مِن المعاصرين مَن تناول أبعاد المقاصد التي يمكن الوصول إليها، كما فعل كل من الأستاذين أحمد الرّيسوني في” مقاصد المقاصد” وعبد المجيد النجّار في ” مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة”، ومدّ أغصانها لتغطية تفاصيل الحياة وجزئياتها قدر المتاح أمامهم، لكنهما بقيا في الإطار المتعارف عليه وهو التقيد بالتقسيم والأنواع المشهورة، ومع أن الشيخ المقاصدي الطاهر بن عاشور أضاف مقصد “الحرية”
والرَّيسوني تحدث عن مقصد “السلام” والقَرَداغي عن “الأمنَيْنْ”، إلا أنّ سطوة التاريخ في تحديد العدد والعناوين مازالت هي، لم تتراجع، ومع أنها من إجتهاد البشر لكن يصعب زحزحتها لرسخوها وقوتها الغالبة، فهذا الكتاب واللجوء إلى تعبير” المنظومة المقاصدية” يأتي في هذا السياق، وهو كسر تجديدي لهذه الهيمنة مع الإبقاء عليها نوعاً رئيساً مكوناً لهذه المنظومة، أي أن مقاصد الشريعة المعروفة بهذا العنوان ليست سوى جزءاً من دون أن يكون كُلّاً، فهي محاولة جادة جداً لتشكيل إطار كلّي جامع، لكنها تبقى إجتهادا أيضاً ينضاف إلى الاجتهادات الأخرى.
إنّ المنظومة المقاصدية لا تنتجها إلا عقولُ الكبار، وعلمُ الكبار المطّلع على الموضوع بدقّه وجلّه، مادّة ممتعة للعقل، مريحة للنفس، أخرجت العلم الضروري من دائرة الخواصّ وأسلوبهم إلى صياغة مرنة سلسة، مع الاحتفاظ بالدقة في التعبير والتركيز في تحديد المغزى، من أجل فهمه وهضمه كمكوّن مِن مكوّنات الفكر والثقافة الإسلامية، ودخوله كمادة معرفية في التدافع الفكري الحضاري داخل المجتمعات.
(1) “الإرتقاء من مقاصد الشريعة إلى المنظومة المقاصدية” علي مُحْيَ الدّين القَرَە داغي، دار الأصالة، اسطنبول، الطبعة الأولى، 2023.