مولاي أحمد صبير الإدريسي: هل تمحي الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب أوجاع سنة من البؤس الثقافي؟

بين دورة مضت وأخرى حلّت، كُتب لي الحضور في عدد من الفعاليات الثقافية مؤطرا أو مستفيدا، وكم تجرعت من الغيظ والحزن قبل وأثناء وبعد تلكم الفعاليات، والتي أكاد أجزم أنه مع كل واحدة منها يتأكد لي أن الثقافة ليست بخير، وأن جسمنا الثقافي المغربي ليس في كامل عافيته.
وعلى مدى الزمن الفارق بين الدورتين حضرت حلقات نقاش ذات الصلة بالموضوع، يتمّ إرجاع الأمر في غالب الأحيان إلى التحولات المتسارعة التي يعيشها عالم اليوم، وخاصة في شقه المتعلق بتطور التكنولوجيا الرقمية، والتأكيد على أن الثقافة فقدت بريقها الذي عرفت بهقبل أن تكتسح قلاعَناهذه التكنولوجيا، حيث لم تعد في مقدمة اهتمامات الأفراد ولا المؤسسات، بل توارى وهجها، وتراجعت إلى الخلف منطويةعلى أسئلة حارقة تلامس مكانتها وأدوارها وفعالية المنتسبين إليها. وفي ظل هذا الواقع، لم يعد بالإمكان إخفاء حقيقة كون الثقافة تعيش بؤسًا حقيقيًا، تترجمه مظاهر عديدة يمكن إجمالها في عناوين كبيرة مثل: التراجع والتهميش والتبسيط وغياب التأثير وفقدان المعنى.
تراجع مكانة الثقافة في المجتمع
لم تعد الثقافة عنصرا أساسيا في تشكيل وعي الفرد والمجتمع، بل تحوّلت إلى نشاط هامشي يتضاءل حجمه ويتناقص تأثيره يوما بعد يوم. وهي حقيقة تشير إليها تقارير اليونسكو حين الحديث عن تدني منسوب القراءة في الوطن العربي (وضمنه المغرب)، إذ لم يتجاوز معدل قراءة الفرد في بعض الدول العربية نصف كتاب في السنة، مقابل عشرات الكتب في دول أخرى. فضلا عن معاناة دور النشر، وإفلاس عدد من المكتبات، وهجران الخزانات البلدية التي صارت تغلق أبوابها الواحدة تلو الأخرى.
هيمنة السطحية وموت الفكر العميق
ويبدو أن أمر الثقافة في تراجع وإن تفاوت حجم هذا التراجع من قارّة لأخرى،ففي دراسة أجرتها جامعة هارفرد، تبيّن أن أغلب الطلبة صاروا يفضلون المحتوى الترفيهي السريع على أي قراءة فكرية معمقة، ومنذ زمان وصف الكاتب الفرنسي الشهير (غي ديبور)الواقع الثقافي الفرنسي بقوله: “لقد صرنا نعيش في مجتمع الفرجة، حيث تحوّلت الحياة إلى سلسلة من الصور والمشاهد”.. وأمام هذا التراجع، وبالرغم مما تتيحهوسائل الإعلام الجديدة من فرص، إلا أنها في كثير من الأحيان لا تزيد واقعنا الثقافي إلا سطحية مقيتة جعلت من التفكير والتأمل شيئا من الماضي. وهكذا فتح الباب على مصراعيه أمام التفاهة، وافتقرت الساحة الثقافية إلى إنتاج موجات ثقافية و(صيحات) فكرية جديدة. وتحوّل الرهان في تشكيل الوعي المجتمعي إلى المؤثرين، وصانعي المحتوى، والفنانين، ولاعبي كرة القدم مسنودين بسدنة السياسة وأرباب المال… وتوارى عن الأنظار المثقف العضوي الذي كان يوما ما منخرطا بشغف، مشاركا بمسؤولية، متشابكا بوعي في كل القضايا المجتمعية.
المثقف.. بين التهميش والاستقطاب
وعلى مدى عقود، تشكلت رؤية (رسمية) تولت رعايتها أنظمة سياسية تخاصم الثقافة، وتعادي المثقف وتنظر إليه بعين الحذر، وتتعامل معه كتهديد لا كرافعة وعي، فصار المثقف غريبا في وطنه، غير مرغوب في مشاركاته، وقدعبّر إدوارد سعيد عن هذه الوضعية الطارئة بقوله: “المثقف الحقيقي هو المنفي في وطنه”، وهو توصيف دقيق لحال المثقف الذي لا يجد أمامه إلا التهميش حين لا يخضع لأجندات معينة، ويحرص على أداء دوره في بناء الوعي المجتمعي وفق فلسفته وقناعاته هو.
الدور الثقافي لمعرض النشر والكتاب
الآن، ومع الدورة الثلاثين لمعرض النشر والكتاب، ضجت من جديد وسائل إعلام وكثير من القاعات والصالونات العمومية بالحديث عن واقع الثقافة ببلادنا، والتفت إليه – فجأة – أفراد ومؤسسات ممن لهم صلة بالشأن الثقافي، وانبرت أقلام وحناجر (وإن كان بعضها تحت الطلب) للحديث من جديد عن واقع الثقافة، والقراءة، وأزمة النشر، ومعضلة الكتاب، وتباينت الآراء حول هذا الواقع بين يائس يكاد ينفُض يده، ويكسر قلمه، ويغلق فمه، ويصادر مشاعره، ويقبر أفكاره… وآخر يأمل خيرا، ويجزم أن الواقع بخير، مادامت في الساحة أقلام تكتب، وكتب تُقرأ، وأصوات ترفض السقوط في دوامة التفاهة، ويحاججون بحكمة نيتشه: “كل ما لا يقتلني، يجعلني أقوى”، ويدعون إلى جعل هذا البؤس يوقظ فينا الحاجة إلى الثقافة.
ولأن وزارة الثقافة تصر مع كل دورة لمعرض النشر والكتاب أن تجعل منه محطة ثقافية بامتياز، وفرصة للالتفات إلى واقعنا الثقافي، نؤكد أن ملامح البؤس لا ترتفع، وإن كان الأمل في التعافي ممكنا لأن أياما عابرة لا تصنع حدث القراءة، ولا تبني صرحا للثقافة، فصرح من هذا القبيل يشيّد على مهل، ويحتاج إلى ترصيد، وإلى رؤيا، وإلى مخطط استراتيجي، وإلى صبر وجلَد واستمرارية.
والمعرض الدولي للنشر والكتاب محطة سنوية معزولة في هذا السياق لا تكفي وحدها لبناء الصرح الثقافي المنشود، ولا تقوى وحدها على نشر الوعي بأهمية القراءة في وقت تنعدم فيه طيلة أحد عشر شهرا مرافق خاصة بالكتاب، فضلا عن (عزلة) الجامعات ومؤسسات التعليم الثانوية التي يُفترض أن تكون ساحات للفعل الثقافي والأنشطة الداعمة للقراءة.
بناء عليه، يحق لنا أن نتساءل مع آخرين: هل تمسح أيام المعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته 30 بؤسنا الثقافي؟
مولاي أحمد صبير الإدريسي عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح