الإدريسي يكتب: في قيِمَة الإِحسَان -10-
كثيرٌ من المُسلمين وخصوصًا العرب منهم، تابَع بشغف برنامَج الإعلامي المتميز أحمَد الشقيري لمواسم عديدة وبخاصة سلسِلة “خواطر” والتي اتخذت لها من قيمة “الإحسان” شعَارًا، وكان موفقا إلى حد كبير في بيان ذلك الفَرق الكبير والبَون الشاسع بين الفكر والوَاقع، بين المرجعية النظرية للمسلمين ومُمارساتهم، من خلال المقارنة بين حاضِرهم البئيس وماضيهم التّليد، أو من خلال المقارنة بن واقِعهم الحالي وواقع الأمَم المتقدمة، والتي استطاعت أن تتَمثل قيمة الإحسَان بشُمولية وإنجاز وفعَالية واستمرارية.
وبالفعل كان الكَثير منا يتحسر-وأنا واحد منهم- ويطرح السؤال ما هو سبب غياب قيمة الإحسان بمضمُونها الحضَاري في الممارسة العُمرانية للمسلمين؟ رغم أن القُرآن المَجيد جعل قيمة الإحسَان ضمن أمّهات القِيم القرآنية، بل إن النبي الكَريم عليه الصَّلاة والسلام جعَلها مَرتبة من مرَاتب الإسلام، كما هو وارد في حديث جبريل عليه السلام، عندما سَأل النبي عليه السلام قائلاً: «قَالَ: مَا الإِحْسَانُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لا تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنْتُ» (صحيح البخاري)، بحيث اعتبر الإحسان قُطب الدين وعُنوان الإخلاص؟ ولماذا يغيب الوَعي بهذه القيمة في المحَاضن التربوية ومؤسسات التنشئة الاجتِماعية؟ وكيف استطاعت بعض الدول والمجتمعات ترسِيخ هذه القيمة في السُّلوك الفردي والجمعي لشعوبها؟ وتعزيزها في سَائر المؤسسات وأغلب الفضَاءات.
المَقصود بقيمة الإحسَان -أصلها لفظ حسن- بحسب المعنى القرآني يسير في ثلاثة أبعاد متكَاملة، الأول: إحسَان في عبادة الخالق: بأن يعبد الله كأنَّه يراه فإن لم يكن يراه فإنَّه يراه، وهذا ثابت في حديث جبريل عليه السلام، ويعني القيَام بحقوق الله تعالى على وَجه الإكمَال والاتمام. أما الثاني: فهو إحسَان إلى النفس والذات، برعايتها وتزكيتها والحفَاظ عليها من الأذى والشُّرور، أما الثالث فهو إحسانٌ إلى الخَلْق من خلال مُراعاة احتياجاتهم، وخدمتهم، وبذل جميع المنافع لهم، وهناك من يزيد بُعدا آخر، وهو إحسَان العمل وإتقانه وإصلاحه، سواء العمل العِبادي أو العَادي أو المُعاملاتي (الإحسان ج1) الإمام عبد السَّلام ياسين، وإن كان هذا البعد في نظري المتواضع، مُندرِج ضمن الأبعاد السَّابقة، وعُموما فإن هذه الأبعَاد كلها تنص على أهمية قيمة الإحسان في حيَاة الإنسان.
وللإحسَان مدلولات أخْرى فقد يأتي أيضا بمعنى الإجَادة والإتقان، وبمعنى النفع والإكرَام، والجود والإنعام، وهو ضِد الإساءة والإجرام، والغِش والنُقصان، ولذلك كان الأمر الإلهي به واضحًا في الكثير من الآيات، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ سورة النحل الآية:90، قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية:” هذه أجمَع آية في القرآن الكريم”، وقال الإمام البيضاوي -رحمة الله تعالى عليه: “لو لم يكن في القُرآن غير هذه الآية لصَدق عليه أنه تِبيان لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين”، والآيات التي تضمن لفظة الإحسان ومشتقاتها (حسن) كثيرة جدا، بحيث تكرّرت في القرآن الكريم في أربعة وتسعين ومائة موضعا . (194)
ولذلك جعل القرآن المجيد من الإحسان وصفًا ملازما للشخصية المسلمة الفعّالة، في كل الوضعيات وجميع الحالات، ولنا أن نتأمل شخصية يوسف عليه السلام والتي وُصفت خمس مرات في سورة يوسف بهذه القيمة ، رغم اختلاف وضعياته والمواقع والأزمنة التي عرفتها شخصية يوسف عليه السلام، فقد وصفه الله تعالى في بداية شبابه بأنه محسن ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 22﴾، وعندما دخل يوسف السجن ظُلما وعدوانا وُصف بالإحسان من طَرَف الشَّابين﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 36 ﴾ ، وعندما كلّفه ملك مصر بتحمل مسؤولية تدبير الأزمة الاقتصادية والاجتماعية سنوات الرّخاء والجفاف، بعد أن ثبتتْ براءته، شهادة واعترافا وانصافا:﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 56 ﴾، وعندما تفاوض الإخوة معه من أجل استبدال أخيهم الأصغر بأحدهم ﴿إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 78 ﴾، وعندما وصف نفسه بعد أن تعرف عليه الإخوة في اللقاء الثالث، وأكد لهم أن عاقبة الإحسان هي الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 19 ﴾، ويمكن أن نسمي سورة يوسف بسورة الإحسان.
إن الإحسان حسب ما أسلفنا يعتبر من القيم العليا في النّسق القرآني، لأنه يعبر عن النهج الأقوم، والسبيل الأسلم ،والسلوك الأحسن، والعمل الأفضل، في تلازم وتكامل بين المُعطى الروحي والمعطى الاجتماعي والمعطى الحضاري لقيمة الإحسان، كما ترشد إلى ذلك الآية الكريمة من سورة المائدة ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ الآية:93. والآية واضحة جلية في أن الإحسان مقام عال، لأنه يتضمن الإيمان والتقوى وزيادة، وهو بهذا المعنى يستوعب كثيراً من المعاني الأخلاقية، والمبادئ النبيلة، والتصرفات الجليلة، التي تجعل قيمة الإحسان حيوية في منظومة القيم القرآنية، والتي تحتاج إلى مكابدة ومجاهدة قال تعالى في آخر آية في سورة العنكبوت، الآية69: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
إن المسلمين اليوم أحوج من أي وقت مضى إلى ضرورة فقه قيمة الإحسان وفهمها والوعي بها، وتمثل مقتضياتها الإيمانية والعمرانية، لأنها قيمة شاملة لكل مناحي الحياة، قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح المليح: ” إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ”… هذا الأمر النبوي بوجوب الإحسان منبثق من الرؤية الكلية القرآنية التي تدعو الإنسان إلى الإحسان: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ سورة البقرة الآية :112، لما لها من آثار مُباركة وطيبة وحسنة على الفرد والمجتمع والبَشرية جمعَاء.