إقامة الدين – رشيدة المنصوري
الدين مهم في حياة الإنسان، فهو نعمة روحية عظيمة، وحاجة فطرية لا غنى للإنسان عنها، ودون ذلك: التخبط والضلال والزيغ، قال سبحانه:﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]، فأي دين نريد وأي شرع نتبع، وكيف نقيمه؟
1 – أيدين نريد وأي شرع نتبع؟
يقول الله عز وجل:﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ [ سورة الشورى: 13]
جاء في لسان العرب: شرع الوارد يشرع شرعا وشروعا: تناول الماء بفيه، والشريعة والشراع والمشرعة: المواضع التي يُنحدَر إلى الماء منها، والشٌرعة والشريعة في كلام العرب: شرعة الماء وهي مورد الشاربة التي يشرب بها الناس فيشربون منها ويستقون، قال الليث: وبها سمي ما شرع الله للعباد شريعة من الصوم والحج والنكاح وغيره….
والشريعة والشرعة ما سن الله من الدين وأمر به، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [ سورة الجاثية: 18]
قال الطاهر بن عاشور:(والشريعة: الدين والملة المتَّبعة، مشتقة من الشرع وهو: جَعل طريقا للسير، وسمي النهج شَرعاً تسميةً بالمصدر. وسُميت شَريعة الماء الذي يرده الناس شريعةً لذلك، قال الراغب: استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيهاً بشريعة الماء قلتُ: ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير).
يتبين من آية سورة الشورى أن الدين واحد ابتداء من نوح عليه السلام وهو أول الرسل إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فشريعة نوح شيخ المرسلين أساس الدين، وشريعة محمد عليه السلام ختام الدين، وبينهما رسل على نفس الدين وشرائع مختلفة، قال سبحانه:﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة : 48]
قال قتادة: (الدين واحد والشريعة مختلفة)، وبذلك فإن الطريق واحد والطريقة مختلفة.
إذن الدين واحد، والدين دين الله، دين القيمة الذي يقيم المجتمع ويقيم كل شيء في حياتنا، ويصنع الحياة في مختلف جوانبها وليس رائحة الدين التي نريد، والشرع شرع الله ولا مشرع سواه سواء في المدونة أو غيرها، فماذا شرع لنا ربنا؟ الجواب:﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾
يقول الشيخ الشعراوي في خواطره:”وإقامة الشيء أي جَعْله قائماً، والقيام هو العمدة في الدلالة على القوة والمقدرة، فالإنسان لا يقوم إلا حال قوته، فإن تعب من القيام قعد، فإنْ تعب من القعود يضطجع، فالحق يريد منا أنْ نجعل الدين قائماً يعني: نقوم به لا نقعد ولا ننام، فالقيام هنا كناية عن الاهتمام به والمحافظة عليه ﴿وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشورى: 13] نهي عن الاختلاف فيه”.
ويقول سيد قطب في الظلال: “فيقيموا الدين، ويقوموا بتكاليفه، ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به؛ ويقفوا تحت رايته صفا، وهي راية واحدة، رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم، حتى انتهت إلى محمد صلى الله عليه وسلم في العهد الأخير”.
في تفسير السعدي ورد: “أي أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان”. ﴿ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ(
2 – فكيف نقيم دين الله؟
نقيم دين الله بالالتزام به، وأول التزام هو فيما يُصلح الجسد به أي القلب لأنه ملك الجوارح وسلطانها وبصلاح السلطان تصلح الرعية، وهو محل النظر ومحل الاعتبار، وذلك بالتقوى والاطمئنان إلى شريعة الله، فالدين ليس محل نقاش عند المسلم لأنه من عند خالقه والعالِم بما يصلح حاله، ثم بالاحتكام إليه سبحانه وإلى شرعه، ثم بالوقوف في ساحته، والوقوف على مطالبه والارتقاء في التدين، وعدم التخلف عن قطار التقوى وعن صف الصادقين لان التخلف قلة فقه وتشجيع خارج الالتزام.
ثم نقيمه بأن نكون أهلا له، ونتأهل لذلك بإصلاح القلوب والارتقاء في مدارج السالكين، وهذا ما سماه ابن القيم رحمه الله صلاحية المحل حيث قال في كتاب الفوائد: “ثم فكرت هل للتوفيق والخذلان سبب أم هما بمجرد المشيئة لا سبب لهما؟ فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها، فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت.
فإذا كان المحل قابلا للنعمة بحيث يعرفها،ويعرف قدرها وخطرها، ويشكر المنعم بها ويثني عليه بها، ويعظمه عليها، ويعلم أنها من محض الجود وعين المنة، من غير أن يكون هو مستحقا لها ولا هي له ولا به، وإنما هي الله وحده وبه. فوحده بنعمته إخلاصا وصرفها في محبته شكرا، وشهدها من محض جوده منة، وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجزا أو ضعفا وتفريطا، وَعلم أَنه إِن أدامها عَلَيْهِ فَذَلِك مَحْض صدقته وفضله وإحسانه، وَإِن سلبه إِيَّاهَا فَهُوَ أهل لذَلِك مُسْتَحقّ لَهُ”، وصلاحية المحل عند ابن القيم بشيئين “حسن فهم وحسن قصد”.
فاللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك واجعلنا أهلا لتوفيقك لا خذلانك واجعلنا من الذين قلت فيهم: ﴿…. وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [ الفتح : 26]