الوسطية في التدين وتمثلات قيم الدين
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
ونشهد أن الله وحده لا شريك له وأن سيدنا حبيبنا وقدوتنا محمد عليه أزكى الصلاة والسلام قد أدى الرسالة وبلغ الأمانة ورفع الغمة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى آتاه اليقين.
نحمد الله تعالى على نعمة الإيمان وعلى نعمة الإسلام وعلى أن جعلنا من العاملين لنصرة دعوته ورسالته فنسأل الله سبحانه وتعالى دقها وجلها خالصة لوجهه الكريم.
إن للمكان حرمته وهيبته أتشرف بأن ألقي هذه الكلمة والتي لا شك أنها تمثل مسؤولية باعتبار أن مثل هذا الدور يقوم به إخوان فضلاء نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في علمهم وعطائهم ودعوتهم.
وأقول على أن الله سبحانه وتعالى جعل من خصائص هذا الدين أنه دين وسطية واعتدال، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم :”وما جعل عليكم في الدين من حرج”، ويقول سبحانه أيضا :”لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”، والحديث في موضوع الوسطية اليوم سأتناوله من ناحية فقه التدين باعتبار التدين هو كسب بشري في تمثل قيم الدين وإنزالها على أرض الواقع، ففي كثير من الأحيان في واقعنا المجتمعي اليوم اختلطت الكثير من الصور في كيفية تمثل قيم الدين فنجد منها من يركز على الأشكال والصور ومنها من ينحو منحى التشدد والتنطع ومنها من ينحو منحى التساهل واللين، وهي كلها صور تطرح إشكالية حول النموذج الذي تقدمه اليوم الحركة الإسلامية على مستوى التدين باعتبار أننا اليوم نعيش في واقع يرتبط بانتشار التصورات والمفاهيم يرتبط ارتباطا وثيقا بالقدرة على تقديم النموذج وطبيعة النموذج الذي يمثله كل طرف ولا شك أن الحركة الإسلامية التي تنتمي إلى تيار الوسطية والاعتدال كان لها دور كبير في إشاعة فكر الوسطية والاعتدال منذ بداية الصحوة الإسلامية ولكن رغم ذلك تبق هناك إشكالات متعلقة بمنهج التدين الذي نريد أن نسلكه وأن نبشر به في واقعنا ومجتمعنا ولعلنا إن تأملنا في أحاديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم سنجد الكثير من الأحاديث التي هي في العمق تشير إلى هذا النموذج الذي يجب على الإنسان أن يسلكه وأن يسير إليه، فحينما جاء النفر الثلاث إلى عائشة رضي الله عنها وسألوها عن أحوال الرسول فأجابتهم، فقال احدهم أما أنا فأصوم الدهر كله، وقال الآخر أما أنا فأقوم الليل كله، وقال الآخر أما أنا فأعتزل النساء، فلما أخبرته السيدة عائشة بذلك، ذهب إلى المسجد وصعد المنبر وغضب غضبا شديدا وقال بال أقوام يقولون كدا وكدا ألا وإني أصوم وأفطر واصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني، فاعتبر هذا النموذج الذي حاول هؤلاء الأصحاب الذين حاولوا أن يتمثلوه خروجا عن السنة وخروجا عن الهدي النبوي وعن المقصد الأساسي من نزول التشريع باعتبار أن هذا السلوك مخالف للفطرة التي خلق الله الناس عليها وهو مخالف لطبيعة هذا الدين باعتبار أنه دين لم يأت ليشقي الناس وليعنتهم وإنما جاء ليخفف عنهم وييسر عليهم، والله سبحانه وتعالى أقر ذلك في كتابه الكريم حينما قال : “وما جعل عليكم في الدين من حرج”، فالحرج أصلا مرفوع، ولكن بعض الأفهام تحاول أن تسوق نموذجا للتدين وكأن التدين فيه نوع من التكلف وفيه حمل النفس على ما تكره وكان الإنسان إذا أراد أن يلتزم بشرع الله يحتاج إلى جهد كبير وأنه سيخالف طبيعة البشر والطبيعة التي خلقه الله عليها، وهذا أمر فيه مغالطة كبيرة وفيه سوء تمثل للإسلام وكذلك سوء في الدعوة إليه ولا شك أن مثل هذه النماذج التي تتمثل بهذه الصورة، وما أكثرها في واقعنا المعاصر تسيء إلى الإسلام وتسيء إلى دعوة الإسلام.
إن الله سبحانه وتعالى لا يريد بتكاليفه عسرا ولا ضيقا ولا مشقة بل يريد اليسر والتخفيف والتوسعة، وقد صاغ في ذلك الإمام الشاطبي قاعدة ذهبية نحتاج جميعا إلى أن نعيها ونستوعبها حيث قال بعبارات محكمة ناصعة :
فإذا نظرت في كلية الشريعة فتأملها تجدها حاملة على التوسط فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر فطرف التشديد وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين وطرف التخفيف وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص يؤتى في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا ومسلك الاعتدال واضحا.
إننا ونحن نختار في حركتنا خيار ترشيد التدين في هذا الواقع نعتقد على أن تيارات الغلو والتطرف والتشدد التي تموج بها الساحة الإسلامية اليوم هي تعبير عن حالات نفسية وحالات من اليأس والتهميش ومن طبيعة سطحية في التعامل في النصوص وهي تسيء للإسلام من جوانب متعددة فلا شك أن الغلو والتشدد هو منفر لا تحتمله طبيعة البشر العادية ولا تصبر عليه، والرسول قال في الحديث هلك المتنطعون كررها ثلاثا، ثانيا إن التشدد قصير العمر لأن المتشدد يفع السقف عاليا على نفسه كما وقع لهؤلاء الصحابة الذين كل واحد رفع سقفا إما في الصوم أو في قيام الليل أو في اعتزال النساء، فعمر هذا قصير لا يمكن للإنسان أن يستمر عليه بل الأصل كما جاء في الحديث أحب الأعمال عند الله أدومها وان قلت، فالأصل هو الاستمرارية على الأعمال وعلى الطاعات دون تكلف في رفع السقف عليها عاليا لأن ذلك يمكن أن ينقلب على صاحبها، وفي واقعنا رأينا كثيرا من الناس الذين غالوا وتشددوا فانقلب الأمر عليهم، ثالثا إن هذا الغلو وهذا التشدد يقدم صورة سلبية عن الدين باعتباره النموذج الذي نسوقه للناس وكان الدين فيه حرمان للإنسان بأن يستمتع بحياته وطبيعته التي خلقه الله عليها وهذه لا شك مفاهيم عندنا مستوعبة ونفهمها بلا شك والحركة ساهمت بتأصيلها، ولكن أقول اليوم وهي ترفع توجه المرحلة المتعلق بترشيد التدين والتشارك في قيم الإصلاح مدعوة أن تقدم النموذج الذي يمكن أن يمثل قيمة تنافسية في الواقع الذي نعيش فيه هذه القيمة التي يجب أن تتجلى في أن الدين هو جالب السعادة للإنسان، وعلى أن هذا الإنسان حينما يتدين سيشعر بطمأنينة وسكينة ويمكنه أن يستمتع بملذات الحياة الدنيا التي خلقها الله بمنهج التدين دون الخروج عن منهج الدين والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم :”من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينه أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون”، وأن نقدم في المقابل على أن الإنسان إذا أعرض عن الله تعالى وابتعد عن منهجه والاهتداء بقيم الوحي فإنه سيضل وسيشقى والله تعالى يقول ” ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تسنى”، هذا البعد الذي يتمثل في تقديم الإسلام للإنسانية كافة وليس للمسلمين فقط يتطلب منا أن نعيد النظر في كثير من ممارستانا وأشكالنا التدينية، لأنه للأسف الشديد نقدم صورة للدين وكأن التدين هو ضد الجمال فتجد الإنسان يكون مهتما بهيئته وبهندامه سواء كان رجلا أو امرأة وبمجرد أن يتدين يتدل حاله إلى حالة في لباس رث وفي صورة ربما قد تكون منفرة والكثير من النماذج نراها اليوم تسيء للدين وتقدم صورة سلبية عنه، كيف نجعل من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :”إن الله جميل يحب الجمال” مظهرا من مظاهر حياتنا سواء على مستوى هندامنا وعلى مستوى الفن وعلى مستوى المعمار أو غيره باعتبار هذه النماذج اليوم هي التي يمكن أن تغري الآخر بالاقتداء، فاليوم الغرب حينما يزحف في أوساطنا فإنه يستطيع أن يسوق لنماذجه من خلال النجاح والانبهار الذي ينبهر به الناس، فكيف يمكن للحركة الإسلامية بالفعل أن تقدم هذا النموذج الذي يغري من خلال نجاح أفرادها في الحياة سواء العملية أو الدراسية أو الأسرية حينما يصبح أبناء الصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية نماذج للاحتذاء في مجتمعها من خلال هيئتهم الخارجية والداخلية، لا شك هذه تحديات وهذه قضايا لا نلامسها بالشكل المطلوب ولا نتناولها بالشكل المطلوب منها، إننا نحتاج أن نهتم بالصورة من أجل تقديم صورة مشرقة عن الإسلام لأنه لا شك اليوم الصورة أصبح لها تأثير في تقديم الصورة عن الأنماط الحضارية وأعتقد أن الحركة الإسلامية مدعوة بشكل كبير أن تعتمد على هذه الصورة في تقديم هذا النموذج وأن تسوقه، فترشيد التدين الذي اخترناه اليوم يجب ألا يقتصر على ترشيد الأفكار والتصورات وإنما يجب أن يهتم كذلك بالعمق وبترشيد ممارسة التدين في ذواتنا نحن كأبناء هذه الحركة والذين اخترنا هذا الخيار خلال هذه المرحلة وهو خيار اشتغلت عليه الحركة منذ نشأتها ولكن أعتقد أن هذا الخيار لا بد أن نعمل على أن نشيعه في واقعنا وفي مجتمعنا لأن هو الذي يمكن أن يؤثر وهذا يتطلب منا تبسيط أفكارنا ومشاريعنا لأنه للأسف الشديد كثير من أفكار الغلو والتطرف والتشدد التي تركز على مفاهيم بعيدة عن منهج الإسلام الأصيل والتي تركز على الشكل دون المضمون تجد قدرتها على التغلغل وعلى الانتشار في أوساط المجتمع بكاملها في حين تبقى مدارس الحركة الإسلامية القائمة على الوسطية والاعتدال ينتشر فكرها في صفوف النخبة المتعلمة وفي صفوف الطبقة الوسطى، والأصل أن يكون هذا المنهج منهجا عاما وفهما عاما يستوعبه جميع المسلمين ليستطيعوا أن يقدموا نموذجا راقيا للآخر، وحتى نكون بالفعل أمة الشهادة على الناس فنقدم صورة مثلى عن الإسلام وبأن الدين هو منبع السعادة وطمأنينة للإنسان وليس منبع شقاء وتعاسة. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضاه والحمد لله رب العالمين.
ذ. محمد عليلو / سلسلة تبصرة