التواج يكتب: نظرات في سورة المزمل (1)
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد،
فقد اخترنا مدارسة سورة المزمل في هذا الشهر الكريم لسببين اثنين:
أولهما : لفضل مدارسة القرآن عموما وفي شهر رمضان خصوصا كما في الحديث: (وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ)[1].ويدخل في المدارسة الوقوف على معاني الآيات وهداياتها، وذلك من أعظم ما ينبغي أن يشتغل به المؤمن في حياته، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من هو في تفسير القرآن وتدبره حتى قال: إني أرجع في تفسير الآية إلى مائة تفسير ،يقول: (وقد ندمت على تضييعِ أكثرِ أوقاتي في غير معاني القرآن ).[2]
ثم إن معرفة معاني الآيات والوقوف على مراد الله منها على وجه الإجمال يؤدي إلى الاستمتاع بالقراءة والشغف بها ،قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري:(إِنّي لأعجبُ مَمنْ قرأ القرآن ولم يعلَم تأويلَه (أي تفسيره)، كيف يلتذُّ بقراءته؟)[3]
ثانيهما: لأن السورة الكريمة تتناول عبادة عظيمة وهي قيام الليل، ونحن في رمضان شهر القيام والتهجد، فناسب أن نقف على ما تحمله من المعاني الجليلة والهدايات المفيدة، عسى أن ننتفع بها في سيرنا إلى الله تعالى.
وقبل الشروع في تفسير السورة يستحسن أن نشير إلى بعض متعلقاتها،
1- سبب تسميتها،ليس لهذه السورة إلا اسم سورة المزمل عرفت بالإضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها ، فيجوز أن يراد حكاية اللفظ ، ويجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحال الذي نودي به.
قال ابن عطية : هي في قول الجمهور مكية إلا قوله تعالى { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} إلى نهاية السورة فذلك مدني . )[4]
سبب نزولها : سورة المزمل من أول ما نزل على الرسول والمقصود أوائلُها أما أواخرُها أو الآية الأخيرة فنزلت في المدينة المنورة بعد الإذن بالقتال، لم يصح في سبب نزولها حديث ،وإنما ورد حديث وأثر في سياقها.
1- عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} المدثر: 2- ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدُ، وَتَتَابَعَ.
2- عن ابن عباس قال: (لما نزلت أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان، حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها سنة.)[5]
مناسبة السورة لما قبلها:
لما ختم الله سبحانه سورة الجن بذكر الرسل – عليهم الصلاة والسلام – في قوله تعالى: (لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغْوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) افتتح هذه السورة بما يتعلق ويتصل بخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث بدأَها بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وقال الإِمام الألوسي : لا يخفى اتصال أَولها (قُمْ اللَّيْلَ). إِلخ بقوله – تعالى – في آخر تلك (سورة الجن): (وَأَنَّهُ لَمَّا قَاَمَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ) وبقوله – سبحانه -: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله) الآية.)[6]
فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في سننه عن سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قالت: ألست تقرأ هذه السورة {يا أيها المزّمل (1)} قلت: بلى قالت: فإن الله قد افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوّعاً من بعد فريضة).[7]
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت {يا أيها المزّمل (1) قم الليل إلا قليلا (2)} مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله بعد عشر سنين {إن ربّك يعلم أنك تقوم (20)} إلى قوله {فأقيموا الصلاة} فخفف الله عنهم بعد عشر سنين.)[8]
أغراض السورة :
السورة كلها خطاب مباشر للرسول صلى الله عليه وسلم، كما هو واضح من أولها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}. وأغراض هذه السورة أشبه بالأغراض العامَّة، التي اشتركت فيها كل السُّوَر المكيَّة، التي جاءت تُقِرُّ العقائد الأساسية، التي جاء بها الوحي.
وتزيد هذه السورة على ذلك بما اختُصَّت به، ممَّا ذكره الإمام ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير)[9] حيث قال: (الإشعار بملاطفة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بندائه بصفة تزمُّله. واشتملت على الأمر بقيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم غالب الليل، والثناء على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل.
– وعلى تثبيت النبيِّ صلى الله عليه وسلم بتحمُّل إبلاغ الوحي.
– والأمر بإدامة إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإعطاءِ الصدقات.
– وأمره بالتمحُّض للقيام بما أمره الله من التبليغ، وبأن يتوكل عليه.
– وأمره بالإعراض عن تكذيب المشركين.
– وتكفَّل الله له بالنصر عليهم، وأن جزاءهم بيد الله.
– والوعيد لهم بعذاب الآخرة.
-ووعظهم ممَّا حل بقوم فرعون لما كذَّبوا رسول الله إليهم. وذكر يوم القيامة ووصف أهواله.
– ونسخ قيام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه؛ رَعْيًا للأعذار المُلَازمة. والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات، والمبادرة بالتوبة. وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبُّره، وأن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل) .
مقصد السورة :
قال البقاعي: (سورة المزمل مقصودها الإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوجال، وتخفف الأحمال الثقال، ولاسيما الوقوف بين يدي الملك المتعال، والتجرد في خدمته في ظلمات الليال، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال، ومحو ظلل الضلال، والمعين الأعظم على الصبر والاحتمال، لما يرد من الكدورات في دار الزوال، والقلعة والارتحال، واسمها المزمل أدل ما فيها على هذا المقال.)[10]
مقاطع السورة:
تنقسم السورة إلى ثلاثة مقاطع :
1- مقطع فيه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن
ومؤمنة من بعد ، وماذا عليه أن يفعل مع ربه.
من قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}
2- مقطع فيه خطاب ايضا للرسول صلى الله عليه سلم ، ولكم من
جهة خاصة ،هي كيف يعامل أعداء الله في تلك الفترة وهم المكذبون
بالدين.
من قوله تعالى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}
3- مقطع به تختم السورة وهو آية مدنية طويلة فيها خطاب للرسول
صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يتناسب مع المرحلة المدنية التي نزل فيها.
من قوله تعالى :{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}.
وستناول في الحلقة المقبلة المقطع الأول من السورة إن شاء الله تعالى.
[1] – صحيح البخاري ، باب ذكر الملائكة.
[2] – ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب. (2/402).
[3] – جامع البيان في تأويل آي القرآن، للطبري .( 1/10).
[4] – المحرر الوجيز،5/86.
[5] – أبو داود ج1 ص503.
[6] -تفسير الألوسي، سورة المزمل.
[7] – صحيح مسلم ،كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.
[8] – تفسير الطبري،23/675.
[9] – التحرير والتنوير ،30/255.
[10] – نظم الدرر في تناسب الآيات والسور،8/202.