التناصح والحاجة إليه بين المسلمين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى اله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، التناصح بين المسلمين فضيلة عظيمة من فضائل الإسلام وقيمة أساسية من قيمه الكبيرة، وهو شعبة من شعب الإيمان، قال تعالى :”والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”، والنصح في اللغة هو الصفاء يقال عسل ناصح إذا كان خالصا صافيا ونقيضه الغش، يقال عسل مغشوش إذا كثرت فيه الشوائب، ولذلك فالإنسان في كل أعماله وشؤونه إما ناصح أو غشاش، غير أن للنصح معنى متداولا بين الناس هو التوجيه والإرشاد والتعليم والتذكير الذي يقدمه المسلم لأخيه، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله نصيحة، فعن تميم الداري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلين وعامتهم”، رواه مسلم، فالنصيحة لله تعالى بإخلاص العبودية له، والنصيحة لرسوله بإخلاص المتابعة له والنصيحة لكتابه بتلاوته وتدبره والعمل بما فيه، والنصيحة لأئمة المسلمين بإرشادهم إلى الحق ومعاونتهم عليه، والنصيحة لعامة المسلمين لتعليم جاهلهم وتذكير غافلهم وإصلاح ما فسد من أحوالهم.
لقد أفاد هذا الحديث الجامع أن النصح الذي يتبادر إلى الأذهان هو جزء من المعنى الواسع للنصح والذي يرادف الإحسان والإتقان والإجادة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المعنى العام في حديث تميم وذكر المعنى الخاص في قوله عليه الصلة والسلام حق المؤمن على المؤمن ست ومنها فإذا استنصحك فانصح له، ونحن لا ننفي أن قدرا من التناصح قائم بيننا بحمد لله إلا أننا نريد المزيد من ذلك في الوقت يتعرض فيه التناصح للتراجع في المجتمع، ومعلوم أن هذه الفضيلة إذا تراجعت حل محلها النفاق والمجاملة وإنما أهلك الأمم قبلها لتركهم التناصح كما قال تعالى :”لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبيس ما كانوا يفعلون”، وأن أول ما دخل النقص على بني اسرائيل أن الرجل يلق الرجل فيقول له يا هذا اتق الله ودع ما تصنعه فانه لا يحل لك فإنه لا يمنعه من الغد أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فكلما فعلوا ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم، وليس غريبا أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة على النصح للمسلمين كما يأخذ البيعة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن بقاء الصلاة والزكاة وغيرهما من عرى الإسلام رهين ببقاء التناصح بينهم، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، رواه البخاري ومسلم، إن التناصح فعل متبادل بين طرفين أحدهما يسدي النصيحة ويقدمها والآخر يستقبلها ويتلقاها، فأحدهما يكون ناصحا أحيانا ويكون منصوحا أحيانا أخرى فهو بحاجة إلى اكتساب فضيلتين الأولى هي إسداء النصح لمن يحتاجه، والثانية هي القبول به والاستعداد الدائم لتلقيه.
وإن من العيوب المشينة أن يجتمع في المسلم الامتناع عن إسداء النصح والامتناع عن قبوله، لذلك سيكون كلامنا عن هذه الحالتين الأولى عندما تكون ناصحا، لا بد أن نعلم أن بدل النصح للمسلمين واجب في الجملة ويتأكد في حق من طلب منه وسأل عنه، فهو وسيلة من وسائل الدعوة والتربية ولا يقبل من المسلم الذي ينتسب إلى حركة تدعو إلى الله تعالى أن يبخل بالنصح لمن يحتاجه، ولا بد أن نعلم أن المقصود من النصيحة ليس إلقاءها فحسب بل المقصود هو أن يحصل الانتفاع بها وذلك يقتضي أن نحرص الطريق بينها وبين قلب المنصوح حتى تصل إليه، في عالم التجارة يراهن المنتجون على جودة المنتوج وطريقه وما يجري على السلع المادية يجري على السلع الروحية قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله كتب الإحسان على كل شيء “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك”، وأكثر الناس يظن أن اللين يدخل في الأسلوب فحسب والحقيقة أنه يدخل في الأسلوب والمضمون على السواء، ولذلك أمر الله موسى وهارون عندما أرسلهما إلى طاغية جبار وهو فرعون قال :”اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى”، ليس المطلوب أن ننصح وكفى بل المطلوب أن يكون نصحنا بإحسان وإلا سيحتاج نصحنا إلى نصح، وإن مما نحتاج إلى إصلاحه حالتان : حالة تغيب فيها النصيحة وحالة تحضر فيها ويغيب الرفق واللين. فما هي شروط النصح النافع وما هي مواصفات الناصح الناجح؟؟
إن الجواب على ذلك يقتضي منا الجواب على شروط ثلاثة :
أولا أن تكون النصيحة بصدق وإخلاص
والشرط الثاني أن تكون بفقه وعلم
والشرط الثالث أن تكون بأدب وخلق
الشرط الأول أن يكون هذا النصح بصدق وإخلاص يبتغي به الناصح وجه الله تعالى، وبهذا ينفع الله بنصيحته وما كل نصيحة صادقة فقد أخبرنا الله تعالى عن إبليس أنه نصح لأدم وزوجه “وقال لهما ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسماهما إني لكما من الناصحين فدلاهما بغرور”، فكانت أول نصيحة مغشوشة ظاهرها إرادة الخير وباطنها نقيض ذلك، ومنذ ذلك اليوم تتالت النصائح المغشوشة في التاريخ وكل من ينصح نصيحة مشغوشة فهو يقتدي بإبليس، فلا يجوز أن تستعمل النصيحة بالتغرير والكذب والانتقام بل هي للدعوة والإرشاد وإفادة الخلق لذلك كان هذا هو الشرط الأول عندما تكون ناصحا.
فيديو : التناصح والحاجة إليه بين المسلمين |
الشرط الثاني أن النية الحسنة لا تكفي لأن النصيحة مثل الفتوى بل هي فتوى في كثير من الأحيان ويترتب عليها علم وعمل لذلك ينبغي للناصح أن يكون متثبتا مما يقول مميزا بين المجمع عليه والمختلف فيه ويتكلم فيما يحسن ويدع ما لا يحسن.
أما الشرط الثالث أن يكون النصح بأدب وخلق فحتى يقبل الناس النصح منك لا بد من الأدب لذلك قال تعالى “يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا”، ومن الأدب أن يستأذن قبل إبداء النصيحة وأن يقدم النصيحة بألطف العبارات بعيدا عن الإفصاح والإحراج والتوبيخ والألفاظ القاسية، وأن تكون نصيحته سرا فإذا أرادها أن تكون علانية فلا يعيب فيقول ما بال أقوام يقولون كذا وما بال أقوام يفعلون كذا، ومن الأدب أن يعمل بنصيحته قبل أن يقولها للناس.
إن المعلومة الواحد يمكن تقديمها بأكثر صيغة ولذلك قال تعالى :”وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم”.
ومن الأدب أن يختار الوسيلة المناسبة موعظة أو خطبة أو رسالة أو مقالة أو إجازة أو حوارا أو توجيها أو كتابة، فإذا جمعت الإخلاص والعلم والأدب فقد سلكت مسلك الأنبياء في نصائحهم، وقد ذكر القران أمثلة عن نصح إبراهيم لأبيه ونصح نوح لابنه ونصح الأنبياء لأقوامهم.
الحالة الثانية عندما يكون المسلم منصوحا وعليه أن يجتاز ثلاث عقبات :
العقبة الأولى أن يقبل النصيحة وقبول النصيحة خلق مكتسب لا ينال إلا بالمجاهدة وإلا فإن الإنسان بطبعه يحب نفسه ويكبر عليه أن يوقفه غيره على أخطائه وعيوبه، ولذلك كان قبول النصيحة عقبة يجب اقتحامها قال تعالى عن بعض أنبيائه الكرام “قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين”، ونحن لا نتكلم عن الذين يرد النصيحة بالحق لسبب معقول يرجع إلى موضوعها أو مناسبتها أو أسلوبها ولكن نتحدث عن الرد الذي لا مبرر له ولهذا أسباب ومنها سببين كبيرين :
أولهما الكبر فإنه الذي يحمل أكثر الناس على رفض النصيحة واحتقار من يقدمها وفي الحديث بطر الحق وغمط الناس أي جحده وازدراء الناس واحتقارهم، وقد نصح النبي رجلا مرة أن يأكل بيمينه فقال لا أستطيع فقال له لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها إلى فيه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى هذا النموذج وذمه في قوله :”ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألذ الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبيس المهاد”.
والسبب الثاني التقليد، فأكثر الناس لا يريد مفارقة ما هو عليه فيدافع عن مألوفاته بغير دليل سوى التقليد.
إن قبول النصيحة خلق إسلامي رفيع راجع إلى التواضع وهضم النفس وأعلى دراجته أن يكون هو الذي يطلب النصيحة ويبحث عمن يخبره بعيبه.
والعقبة الثانية أن يشكر صاحبها ويثني عليه فما أكثر ما تكون النصيحة سببا في العداوة والبغضاء بل قد تدفع للانتقام كما حصل لعدد من علماء الإسلام عندما نصحوا حكام زمانهم فسجنوهم وقتلوهم وجردوهم من مناصبهم فإذا عود المسلم نفسه أن يشكر الناصح فقد اقتحم العقبة الثانية. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي عبد الله بن أبي مكتوم يقول له “أهلا بمن عاتبني فيه ربي”.
العقبة الثالثة أن ترجع إلى هذه النصيحة إذا كانت صوابا لأن القبول لا يعني الرجوع وذلك تمام التواضع ولذلك كان السلف يقولون لأن نكون أذنابا في الحق خير من أن نكون رؤوسا في الباطل، وقد عمل موسى عليه السلام بنصيحة رجل فخرج منها قال “اخرج إني لك من الناصحين فخرج منها”.
إن النصيحة تهدف في الأخير إلى أمر عظيم وهو التوبة والرجوع ولذلك وصف التوبة نفسها بالنصوح “يا أيها الذين امنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار”، فكل نصيحة نافعة فثمرتها توبة نصوح ولذلك يكون النصح قبل التوبة وتكون التوبة بعد النصح نصوحا، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول النصيحة ونقبلها وكان تلامذه من الصحابة الكرام على هذين الخلقين العظيمين، فقال سيدنا عمر للأمة لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها، وقال سيدنا أبي بكر في خطبة الخلافة إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يحلينا بحلية هذا الخلق وبهذه الفضيلة، وندعو الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب والحمد لله رب العالمين.
د . عز الدين توفيق/ سلسلة تبصرة