التواج يكتب: في زمن الشدائد لا حق لأحد منا في فضل
مع دخول جائحة كورونا عامها الثاني والاستمرار في إجراءات الحجر والإغلاق الليلي تزداد محنة فئة عريضة من أبناء الشعب المغربي، خصوصا الذين فقدوا مورد رزقهم غير الكافية أصلا، كالمستخدمين في المقاهي والمطاعم أو العمال والعاملات في الحمامات الشعبية .
ووفقا لتقرير رسمي للمندوبية السامية للتخطيط. فقد تسببت التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا والجفاف في المغرب إلى فقدان أكثر من 430 ألف وظيفة في 2020، وارتفع عدد العاطلين عن العمل إلى حوالي مليون ونصف المليون.
وإذا كان الناس في صدقاهم وزكواتهم غالبا ما يلتفتون إلى الفقراء والمساكين ممن حولهم، فإن هناك فئات من الناس تستحق العناية والدعم ممن لها دخل محدود، فهي تكد وتسعى لتعف نفسها عن السؤال كما وصفهم القرآن “يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا” (البقرة 273)، هذه الفئات من المجتمع وجدت نفسها في شهر رمضان عاطلة عن العمل، فاقدة للمعيل وهي بحاجة لمن يواسيها ويسد جوعتها .
إن الناظر في نصوص الكتاب والسنة يجدها تدعو إلى التضامن والتكافل بين المسلمين، وتحث على أن يقف كل واحد منهم مع أخيه المسلم خاصة في وقت الملمات وعند حلول الشدائد، ولذك تجد في السنة النبوية وصفا لحالات الاحتياج الطارئة في المجتمع والتي تستدعي تدخلا عاجلا، مثل : تفريج الكرب، وإغاثة الملهوف، وإدخال السرور على المسلم، وقضاء الحوائج، وسداد الديون، وإعانة الضعيف والمنقطع وغيرها من الحالات التي ليس بالضرورة أصحابها فقراء أو مساكين، وإنما أصابتهم نوائب الدهر.
إن التكافل والتضامن بين أفراد المجتمع في أيامنا هذه ينبغي أن ينظر إليه من عدة زوايا :
1- أنه واجب الوقت بسبب الوباء:
فقد يرقى أمر الالتفات إلى هذه الفئة المتضررة من المجتمع بالدعم المالي إلى واجب الوقت، بمعنى نقدمهم على غيرهم في المساعدة لأننا في رمضان شهر الجود والبذل والعطاء، وليس عندهم ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، ولأن حال الاحتياج عندهم مؤقت ينتهي برفع الإغلاق الليلي بعد رمضان .
قال القرطبي: “واتَّفَق العلماء على أنَّه إذا نزلت بالمسلمين حاجةٌ بعد أداء الزكاة، فإنَّه يجب صرف المال إليها”(1)
2- نفع الناس من أفضل القربات:
قال صلى الله عليه وسلم ( أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً ، أو تقضِي عنه دَيْنًا ، أو تَطرُدُ عنه جوعًا)(2)
بين الحديث أن من تعدى نفعه للغير، هو من خير الناس ومن أحبِّ الناس إلى الله، وهذه منزلة عظيمة جدا، ودرجة عالية رفيعة، ذلك أن محبة الله للعبد عنوان لكل فلاح في الدنيا والآخرة.
وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ).
3- النفع المتعدي أولى من النفع القاصر:
علمنا ديننا أن الأعمال التي يتعدى نفعها الغير مطلوبة أكثر وثوابها أعظم عند الله.قال صلى الله عليه وسلم : (ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا )(3)
والحكمة في كون هذا الفعل هو أفضل من الاعتكاف في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم شهراً: هي أن المشي في حاجة الأخ عمل متعد النفع؛ فأنت تنفع غيرك وتكسب معه الأجر لنفسك، وفيه من المصالح الشيء الكثير، فربما يكون بمشيك معه في حاجته نفع للمسلمين، وربما يكون فيه دفع للأذى عنهم، أما الاعتكاف فمع معرفتنا بفضله والأجر الوارد فيه إلا أنه عمل نفعه قاصر على النفس وعلى الإنسان وحده.
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن عبد الله ابن المبارك تلميذ الإمام مالك : كان في طريق الحج، فمات لهم طائر فأمر غلمانه بإلقائه في مزبلة الطريق، ثم إنه رأى فتاة جاءت وأخذت الطائر الميت فسألها عن شأنها فأخبرته أنها وأخاها من الفقراء وأن أباها قد قتل وأُخِذَ ماله وأن الميتة تحل لهم، فقال لخادمه كم معنا من المال؟ فقال: ألف دينار، فقال أبق منها عشرين نرجع بها إلى بيوتنا، واعط الباقي لهذه الفتاة، فهذا أفضل من حجنا لهذا العام ثم رجع.
4- السعادة في البذل والعطاء:
العطاء والبذل في سبيل الله يؤدي بالمؤمن إلى الشعور بالسعادة والفرح والنشوة.
يقول بعض السلف: ( إن في قضاء حوائج الناس لذة لا يعرفها إلا من جربها، فافعل الخير مهما استصغرته، فإنك لا تدري أي حسنة تدخلك الجنة).
ثم إن من يعطي ويتصدق ينمو ماله ويضاعف أضعافا مضاعفة، كما وعدنا ربنا سبحانه وتعالى في قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً). البقرة 245. . قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله:( رُبَّما تَنامُ وعَشَرَاتِ الدَعَوَاتِ تُرفَـعُ لَـك. مِنْ فَقِيْرٍ أَعَنْتَه، أو جَائِعٍ أَطْعَمْتَه، أو حَزِينٍ أَسْعَدْتَه، أو مَكْرُوبٍ نَفَّسْتَ عَنه. فَـلَا تَستَهيِنَ بِـفِعلِ الخَيرِ).
5- تقوية اللحمة بين المسلمين:
إن إخواننا الذين وقعوا في هذه الضائقة إذا رأوا أننا لم نتخل عنهم، وأننا وقفنا بجانبهم ماديا ومعنويا، سيشعرون بهذه الأخوة الدينية حقيقة على أرض الواقع، فتتقوى أواصر المحبة بين أفراد الأمة، ويزداد المجتمع المسلم تماسكا وقوة، وهذه القيم النبيلة ليست غريبة عن مجتمعنا المغربي، وتاريخه القريب والبعيد يشهد على ذلك. وفي هذا الأمر وردت إشارات نبوية بليغة منها :
– حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).(4)
أنظر كيف مثلهم النبي ﷺ بالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر، إذا جرح في الجسد عضو تبدأ الحرارة ترتفع، ويظهر آثار المرض في الجسد كله فهكذا الأمة مثل الجسد الواحد .
– وحديث حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه)(5)
وجاء في رواية في صحيح مسلم في هذا الحديث أن النبي ﷺ قال: (المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينُه اشتكى كلُّه، وإن اشتكى رأسُه اشتكى كلُّه)
6- حفظ أمن المجتمع واستقراره:
إن العطاء خاصة في زمن الأزمات ليس منة على الفقراء، بل إنه واجب يحمي الأغنياء من ضياع مالهم وانقلاب الأوضاع عليهم. قال الله تعالى: {أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } البقرة: 195.
وما شرعت الزكاة والصدقات إلا لخير المجتمع وتقدمه وتأمينه ضد العوارض والأزمات التي تعصف به أحيانا وتحصينه ضد كل ما يعيق رقيه، وهي بالنسبة للأغنياء تطهر نفوسهم من البخل والشح واحتقار المحتاجين، وفي المقابل تُذهب الحقد والحسد من نفوس الفقراء تجاه الأغنياء والذي بدوره يمنع كثيرا من الجرائم التي تحدث بسبب الفقر وتهدد الأمن الاجتماعي.
يقول سيد قطب رحمه الله (الزكاة تأمين اجتماعي للأفراد جميعاً، وهي ضمان اجتماعي للعاجزين، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكك والانحلال)(6)
7- حفظ ماء وجه المحتاج وكرامته:
إن الأصل أن يتكافل المسلمون فيما بينهم بحفظ ماء وجه الإنسان المحتاج؛ كما حثنا الرسول الكريم في التصدق بأن لا تعلم شمالنا ما أنفقت يميننا، وهذا لإعفاء الناس من مواطن الحرج.
وقد قال الله عز وجل : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ) البقرة / 263 .قال الطبري رحمه الله: ( قولٌ جميل، ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم، وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته، خير عند الله من صدقة يتصدقها عليه ( يتبعها أذى )، يعني يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها)(7)
واستكمالاً لهذا التوجّه لحفظ الكرامة، جاء مدح الفقراء الّذين يحفظون ماء وجههم وكراماتهم، فلا يمتهنون الطّلب ومدّ يد السؤال، قال تعالى: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا…}. البقرة 273.
صحيح أن الشرع قد أوجب على الدولة تحقيقَ التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة؛ حتى لا يكون أحد بينهم ذا حاجة، ويجد كل فرد – مسلمًا كان أو غير مسلم – قدرَ كفايته، وهذا مبدأ عظيم سبق الإسلامُ في تقريره كلَّ النُّظُم والشرائع .
فواجبٌ على الدولة في الإسلام أن تُوفِّر للمواطنين ما هم في حاجة إليه من الغذاء والكسوة، والمسكن والعلاج، وما في حكم ذلك مما يحقق لهم مستوى من العيش الكريم.
ومن المبادرات الرسمية التي تساهم بها الدولة المغربية في تحقيق التكافل الاجتماعي ومحاربة مظاهر الفقر والهشاشة :
1- مؤسسة محمد الخامس للتضامن: التي تنظم عملية الدعم الغذائي خلال شهر رمضان ، وهي من أهم المبادرات التضامنية التي تقودها المؤسسة منذ تأسيسها. حيث يتم خلالها تقديم الدعم والمساعدة للفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة بمناسبة هذا الشهر الكريم، الذي يعتبر رمزا للتشارك والعطاء.
2- صندوق الدعم كورونا: الذي ينظم عملية الدعم المؤقت للأسر المتضررة من فيروس كورونا .
وللمجتمع المدني دوره في تخفيف المعاناة عن الحالات الاجتماعية، بالرغم مما يعرفه من مضايقات من طرف السلطات تصل إلى حد المنع، لكن نرى أنه من الواجب على الدولة أن تيسر للمجتمع المدني القيام بدوره في هذا المجال، فعمل الدولة مهما بلغ لن يصل لكل المتضررين ولذلك فالحاجة ماسة إلى تيسير عمل الجمعيات الاجتماعية.
ولأهل الفضل والإحسان دورهم في تقديم الهبات والتبرعات والصدقات، وعلى مر تاريخنا كانت لهم أوقاف وحبوس مختلفة ساهمت في سد حاجات المجتمع على اختلافها.
ولا شك أن كل فرد الأمة له دوره في تحقيق التكافل الاجتماعي، إما بالمساهمة المباشرة ولو كانت قليلة، قال صلى الله عليه وسلم: سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ قالوا وَكَيفَ ؟ قالَ : كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها(8)
وجَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ البَقَاءَ)(9)
أو بتشجيع الناس وحضهم على تقديم الدعم المالي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قـــال: ( من دلَّ على خير، فله أجر فاعلــه)(10)
وقد عاب الله على من قعد يتفرج أو ينتقد ويلوم، ثم لا هو يساهم ولا هو يشجع غيره فقال سبحانه :”وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين” (الفجر 18)، أي: لا يحض بعضكم بعضًا على إطعام المحتاجين من المساكين والفقراء، وذلك لأجل الشح على الدنيا ومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب.
وأخيرا نقول إنها مسؤولية شاملة عامة لا يستثنى منها أحد، ولا يعفى منها أحد، فمن قدر على الإنفاق أنفق ولو من القليل، ومن عجز عن ذلك اجتهد في دعوة غيره لكي ينفق.
ذ. خالد التواج / عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح
——
- الجامع لأحكام القرآن 2/242.
- صحيح الترغيب والترهيب،2623.
- صحيح الجامع .
- أخرجه مسلم،كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم
- أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم.
- في ظلال القرآن،4/2455.
- تفسير الطبري (5 / 520)
- صحيح سنن النسائي.
- صحيح مسلم.
- صحيح مسلم.