البراهمي في رسالة الإصلاح: الأسرة بين قيم التعاقد وقيم التراحم
بمناسة اليوم العالمي للمرأة عرف المغرب نقاشا وسجالا معرفيا وحقوقيا حول قضية المرأة ومؤسسة الأسرة، وفي هذا السياق أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مذكرة يوصي فيها بإجراء مراجعة طموحة (حسب وصف المجلس) لمدونة الأسرة لحماية النساء وضمان حقوقهن . كما أصدرت المندوبية السامية للتخطيط تقريرا حول وضع المرأة والأسرة، وتفاعلت بدورها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مع الحدث حيث تم تخصيص خطبة موحدة حول مكانة الأسرة في الإسلام.
ونرى انطلاقا مما سبق الحاجة إلى فتح نقاش علمي وهادئ بين مختلف الفرقاء والفاعلين بغية تحقيق الإنصاف للمرأة المغربية دون الإخلال بتماسك الأسرة واستقرارها ونرى في سبيل ذلك التأكيد على الأمور التالية:
أولا : طبيعة الأسرة ومكانتها الاجتماعية
يعتبر الحديث عن الأسرة حديث عن مؤسسة ولدت مع ولادة الإنسان، واستمرت معه في مختلف مراحل وحقب التاريخ، خلافا لباقي مؤسسات المجتمع التي ارتبط وجودها بأسباب وعوامل كان السبب في بقائها أو زوالها، فقد وجدت الأسرة في مختلف المجتمعات رغم اختلاف دياناتها وتوجهاتها، حيث كانت وما زالت القاسم المشترك في جميع المجتمعات رغم التحولات التي طالت بنيتها ووظيفتها وشبكة علاقاتها. فهي أهم مؤسسات المجتمع المؤثرة في بنائه وفي استمراريته وفاعليته، وفي بلورة القيم وغرسها بمختلف أبعادها الدينية والأخلاقية والاجتماعية.
ثانيا الإعلاء من قيم التراحم والعطاء في العلاقات الأسرية:
إن تتبع آيات القرآن الكريم في الاجتماع الأسري يكشف أن الأدوار والوظائف التي أنيطت بهذا الاجتماع، قائمة على قيم التساكن والتراحم والبذل ، يثبت ذلك قوله تعالى ” وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الروم آية 21. وقوله تعالى ” ” هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ “ البقرة آية 187.
إن نظام الأسرة في التصور الإسلامي يبني العلاقات بين أطرافها على أسس متينة أساسها مراعاة:” أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة فلا يحرم امرأة ولا صغيرا لمجرد أنه امرأة أو صغير، ولا يميز جنسا على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي، وهو نظام يراعي طبيعة الفطرة بصفة عامة، وفطرة الإنسان بصفة خاصة..” (في ظلال القرآن، ج: 1، ص: 597.)، وهو نظام قائم أيضا على قيم الطاعة والإحسان والبر بالكبار، وعلى الرحمة والعدل بالصغار، وهي مجموعة قيم مرجعية تؤسس لعلاقات أسرية يطبعها قيم التعاون والتضامن والتراحم، وتضمن تماسك الأسرة واستقرارها وبالتبع تماسك المجتمع واستقراره، وهذا ما نلمسه في بنية الأسرة المغربية حيث معالم التراحم والتضامن متجسدة في العلاقات بين أفراد الأسر، وهي قيم لا يشذ عنها إلا القليل في المجتمع المغربي ممن انساق مع بعض القيم السلبية الوافدة والقائمة على الفردانية.
ثالثا الضبط القانوني والتعاقدي للأسرة:
إن التراحم المطلوب لا ينفي ضبط مصالح الأسرة وفق القواعد القانونية التي تمتح من هوية الأسرة ومرجعيتها القيمية والأخلاقية، والضامنة لحقوق أفراد الأسرة في بنائها واستقرارها أو في حالات تفككها، وخاصة حقوق الفئات الهشة كالمرأة والأطفال وكبار السن. وإنما تُؤَطَّرُ هذه الحقوق ضمن منظومة قيم تجعل من الأسرة مؤسسة تسمو على الأنانية الذاتية، والمصالح الآنية، وتتطلع لأداء وظائفها الحضارية في التربية والتكوين والتخريج واستقرار المجتمع ونهضته.
ومن ثم فلا نرى مانعا من النظر المتجدد في مدونة الأسرة وفي باقي القوانين المرتبطة بالمرأة والأسرة عامة في إطار مقاصد الشرع وأحكامه، بما يضمن استقرار الأسرة وأدائها لوظائفها الاجتماعية والحضارية. فالشريعة الإسلامية تؤكد على قدسية عقد الزواج وأنه ميثاق غليظ يجب الوفاء به والإلتزام بمقتضياته. لكن في نفس الوقت فالأسرة ليست شركة تعاقدية يسعى كل طرف من أطرافها إلى الاستحواذ على أكبر قدر من المنافع والمصالح عل حساب الطرف الآخر، وهو ما ينعكس سلبا على طبيعة العلاقات البينية بين أفراد الأسرة. وإن النظر المتجدد في مدونة الأسرة ينبغي أن يقوم على مقاربات متعددة، وعلى دراسات علمية وميدانية غير متسرعة ولا موجهة لواقع الأسرة المغربية دون الخضوع لإملاءات خارجية قد تؤثر سلبا على نسيجنا المجتمعي.
وختاما نرى أن تماسك الأسرة والإرتقاء بها ينبغي أن يكون هما مجتمعيا، تتظافر كل الجهود لأجل الإسراع بتحقيقه، وهذا يتطلب إشراك كل الفاعلين المدنيين،ومؤسسات العلماء، والمؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية .
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
د. محمد لبراهمي