عمل المؤمن بين السر والعلانية للدكتور محمد عز الدين توفيق

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإن لكل إنسان ظاهر وباطن أو سريرة وعلانية والناس ثلاثة:

  • رجل سريرته أقل من علانيته، وهذا كثير في الناس يزين ظاهره، ويحرص على أنيكون ما يعلمه الناس عنه حسنا ولا يكون عنده الحرص نفسه فيما يتعلق بالسريرة.
  • ورجل سريرته مثل علانيته، لا يخفي شيئا وظاهره كباطنه، ويحاول أن تكون صورته واحدة، وهذا أفضل من الأول.
  • ورجل سريرته خير من علانيته، فعلانيته حسنة وسريرته حسنة، ولكن سريرته خير من علانيته، وهذا ليس كثيرا في الناس، لأنها مرتبة لا يبلغها إلا من جاهد نفسه حتى صار الذي لا يعلمه الناس من استقامته وصدقه وأمانته فوق الذي يعلمون، فهو يريد أن يكون خيرا مما يظنون.

 وقد جاء الإسلام بالصدق وحارب الكذب والنفاق والتلون واعتماد أسلوب الوجه والقناع .. لذلك تداول الصحابة رضي الله عنهم هذا المصطلح، مصطلح السريرة.

جاء في بعض كتب التاريخ أنه لما اشتد المرض بأبي بكر رضي الله عنه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما ترون ولا أظنني إلا ميتا لما بي، فأشار عليهم أن يختاروا من يخلفه فقالو رأينا رأيك، فدعا عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب؟ فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه. والشاهد في قوله:”هو الله أفضل من رأيك فيه” أي أن ما تعلم عنه أقل من حقيقته، ثم دعا عثمان رضي الله عنه فقال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله. ثم دعا أسيد بن حضير فقال: الذي يُسر خير من الذي يعلن.”[1]

ونريد أن نتأمل هذا الجواب الذي تواردوا عليه وتكرر عندهم أن الذي يُسر خير من الذي يُعلن وأن سريرته خير من علانيته وأنه أفضل من رأيك فيه…

فإذا أراد أحد منا أن يعلم ما المطلوب منه إذا كان في مسؤولية كأن يكون رب أسرة، أو رب متجر أو رب مصنع أو نائبا أو مستشارا فهو أن تكون سريرته خيرا من علانيته،  فتكون علانيته حسنة وسريرته حسنة وإذا تنافستا تقدمت السريرة على العلانية، ويكون الذي لا يعلمه الناس عنه أفضلمن الذي يعلمون.

فماهي هذه السريرة؟

إن الله سبحانه وتعالى قال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}سورة البقرة 216.وفي كلام العلماء نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.قال ابن عبد البر في التمهيد:” أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله.”[2]

سريرة الإنسان إما أفكار ومشاعر حسنة أو سيئة و إما أعمال حسنة أوسيئة:

السريرة من السر وهو ضد العلن، والذي يسره الإنسان شيئان:

 إما أفكار ومشاعر وخواطر في قلبه لا يطلع عليها الناس.

 وإما أعمال حسنة أو سيئة يخفيها ويحرص ألايطلع عليها الناس؛

 فأما النوع الأول من السرائر فكالإيمان أو الكفر، الإخلاص أو الرياء، المودة أو البغضاء، فهذه أحوال قلبية لا يطلع عليها غير صاحبها، وهو الذي يبديها إذا شاء أو يبقيها سراً.

 وأما النوع الثاني فهو طائفة من أعماله الخارجية التي تظهر لكنه يختار إخفاءها، وقد تكون حسنة أو سيئة فمن الأعمال الحسنة قيام الليل وصيام النهار وتلاوة القرآن ومساعدة الفقراء والجهاد في سبيل الله، فإن هذه الأعمال قابلة للإظهار وقابلة للإخفاء، فإذا أخفاها كانت جزءا من سريرتهوقد تكون حسنة وقد تكون سيئة،  قال الله تعالى “إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِىَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُوتُوهَاٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمْ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.” البقرة، 271.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم:  وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لاَ تَعْلَمُ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»[3].

وكما يختار الناس إظهارالعمل الصالح أو إخفاءه فإنهم يختارون إظهارالعمل السيء أو إخفاءه.

فالسريرة هي ما في القلب مما لا يعلمه إلا صاحبه،وحتى يبديه ويخبر به ويكشفه للناس،أو ما يقوله اللسان وتفعله الجوارح لكن يخفيه صاحبه عن الناس لأنه قابل للإظهار والاخفاء معا.

ولا يخفى أن بلوغ هذه الدرجة التي تكون فيها السريرة خير من العلانية هو ثمرة تزكية طويلة تنقل صاحبها من الصنف الأول إلى الثاني ثم إلى الثالث والحكم للغالب عليه، لأنه قد تمر به أحوال ينزل فيه عن مرتبة إلى مرتبة أقل، وتبقى هذه المرتبة أعلى ما ينشده المسلم في الحياة إنه يخاف أنيظن به الناس شيئا من الصلاح والاستقامة وهو ليس كذلك،  ويريد أن يكون عند الله خيرا مما يكون عند الناس، يفرح بشهادتهم في حقه ولكنه يسعى لتكون تلك الشهادة موافقة للحقيقة، وأن يصدق ظنهم ويكتشفوا يوم القيامة أن ما لم يعلموا عنه أفضل مما كانوا يعلمون.

قصة وعبرة:

ولنتأمل هذه القصة كيف تبين أن الصحابة رضي الله عنهم يتطلعون أحيانا إلى معرفة السريرة للاقتداء، روى الإمام أحمد بإسناد على شرط الشيخين عن أنس رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فطلع رجل الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، وقد علق نعليه بيده الشمال فسلم، فلما كان من الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل بعينه مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم  مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبع عبد الله بن عمرو بن العاص ذلك الرجل فقال له: إنيلاحيْت أبي فأقسمت ألاّ أدخل عليه  ثلاثا فإن أردت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، فقال: نعم، قال أنس: كان عبد الله يحدث بأنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعارّ من الليل (أفاق) وتقلب على فراشه ذكر الله تعالى وكبره، ولا يقوم حتى تقوم الصلاة غير أنني لم اسمعه يقول: إلا خيرا، فلما مرت الثلاث وكدت أحتقر عمله، فقلت يا عبد الله إنه لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات:   يطلع عليكم الآن رجل من أهلالجنة فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أنآوي إليكفأنظر ما عملك فاقتدي بك، فلم أركعملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟  قال: ما هو إلاما رأيت،  فلما وليت دعاني وقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد لأحد من المسلمين في نفسي غشا ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هي التي بلغت بك،وهي التي لا نطيق.”[4]

فتأمل هذا الصحابي يتفرغ ثلاثة أيام ليقف على السر الذي أدرك به هذا الرجل ما أدرك، وكيف أنهلم يعلم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يدخل،  فلما أخبره عبد الله جعل يتذكر ما الذي بلغه تلك الدرجة وذكر له أخيرا أمراً قلبيا لا يراه الناس وتوقع أنهالسبب من غير جزم،  وقد جاء في الحديث: إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم.”[5]

فالقلب الذي سلم من الغش والحسد وكان فيه الإخلاص بدل الرياء والحب مكان الحقد والتواضع مكان الكبر يرفع صاحبه عند الله وعند الناس.

فعندما يتوسم الناس فيك الخير ويزيدون على ذلك، فيختارونك لتمثلهم أو لتحكمهم أو لتعلمهم أو لتؤمهم أو لتحفظ أماناتهم فكن خيرا مما يظنون.

السبيل إلى معرفة السريرة:

وهنا وقفة: هي كيف يعلم الناس أن سريرة أحد خير من علانيته؟ والجواب أنهميحكمون بالظن أو أن هذه السريرة تنكشف لهم، قال: عثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه: (ما أسَرَّ أحدٌ سريرةً إلَّا أظهَرَها اللهُ عزَّ وجَلَّ على صَفَحاتِ وَجهِه وفَلَتاتِ لِسانِه.)[6]

وقد نهانا الإسلام حتى عندما نعلم عن أحد ما يقتضي تزكيته أننجزم بذلك، بل نقول نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

أحيانا يطلع الناس من سريرة أحدما لا يريد أنيعلموها عنهولا تجده حريصا على إظهارها ولكنها تعرف من طريق الزوجة والأبناء وخلص الأصدقاء، وقد قال الشاعر:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة …..وإن خالها تخفى على الناس تُعلم

 والناس يستدلون بالعلانية على السريرة وقد يصيبون وقد يخطئون، ويبقى العلم بالسريرة راجعا إلى الشخص المعني فهو أعلمبنفسه من الناس،  والله تعالى أعلم به منه بنفسه، فهذا حافز قوي يحفز أحدنا ليكون فوق ما يُظن به.

 قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: “من أصلحسريرته أصلحالله علانيته، ومن أصلحما بينه وبين الله أصلحالله ما بينه وبين الناس،  ومن عمل لآخرته كفاه الله أمردنياه.”[7]

ثمرات إخفاء العمل الصالح:

1- تجريد الإخلاص لله عز وجل، فإن من أخفى عمله جرد إخلاصه في نيته لله.

2- تحقيق الصدق بتوحيد الإرادة، فإن العبد إذا في جمع من الخلق نازعته إرادته في الصدق، وإذا كان في عمل يخفيه جمع نفسه على الصدق.

3- الخَلْوة بالله عز وجل، فإن من خلا بمن يحب عظمت حاله، فإذا كانت خلوة العبد بأعظم محبوبوهو الله تعالى كَمُلت حاله، وكان السلف يستحبون أن تكون للعبد ساعة يخلو فيها لربه، ومن أطيب الساعات التي يخلو فيها العبد بربه ساعة يخفي فيها عملا صالحا.

4- تقوية النفس على إتيان الأعمال الصالحة، فمن قويت نفسه على عمل صالح يُخفى قويت على عمل صالح يُبْدى  ويُعْلن.

5- زيادة خشية الله في قلبه، فإن الذي يُخفي عملا صالحا تقوى في قلبه خشية الله، لأن محركه على العمل تعظيم الله وإجلاله،

6- تعظيم أجره، فإن العمل الصالح إذا أُخفي عَظُم أجره، وذلك مثل قول الله تعالى ” إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِىَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُوتُوهَاٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمْ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.” البقرة، 271.

وفي الحديث: “قالَ رجلٌ : يا رسولَ اللَّهِ، الرَّجلُ يعملُ العملَ فيسرُّهُ فإذا اطُّلِعَ عليهِ أعجبَهُ ؟ فقالَ لَهُ أجرانِ أجرُ السِّرِّ وأجرُ العَلانيةِ.”[8]

7- تَوقيِّ الشهرة، فإن إظهار الأعمال يتسلل معه إلى القلب محبة الشهرة بين الخلق بالعمل الصالح، وإذا أخفى العبد عمله لم يجد في نفسه رغبة في الشهرة.

8- حراسة النفس من مفسدات القلب في رؤية الأعمال، كالرياء والسمعة والعجب، فإن من يظهر عمله يتخوف على نفسه هذه المفسدات، فإذا أخفى العمل صار في حرز منها ووقاية.

خاتمة:

إن من كانت سريرته خيرا من علانيته لا يخاف يوم القيامة، لأن ما سيكشف ويعرف منه خير مما يعلمه الناس، وإنما يخاف الذي سريرته أسوأ من علانيته ، يخاف من الفضيحة على رؤوس الأشهاد، ولهذا قال الله تعالى:{ يَوْمَ تُبْلَى ٱلسَّرَآئِرُ} سورة الطارق-9. أي تظهر وتبدو السرائر التي كانت في الدنيا خفية، سواء كانت أعمالا صالحة أو أعمالا سيئة، وها نحن على آثارهم نتواصى بهذه الكلمات فيما بيننا،  من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، فالسريرة أولا ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح ما بينه وبين الناس فإصلاح ما بينه وبين الله أولا.

ومن عمل لآخرته كفاه الله من دنياه، فالعمل للآخرة أولا، تأييد ذلك من كتاب الله تعالى  {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُوتِكُمْ خَيْرًا} سورة الأنفال 71.

ويعتصم المؤمن – وهو يجتهد في إصلاح سريرته حتى تكون خيرا من علانيته- التوبة والاستغفار وأن يقول في صباحه ومساءه: “اللهم إني أصبحت منك في نعمة، وعافية، وستر، فأتِمَّ نعمتَك عليَّ، وعافيتك، وستْرَك في الدنيا والآخرة.”[9]

وعَنْ عَدِيِّ بْنِ أَرْطَأَةَ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيهِ وسَلم إِذَا زُكِّيَ قَالَ: “اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ واجعلني خيراً مما يظنون.”[10]

والحمد لله رب العالمين

[1]– الكامل لابن الأثير: 2/ 79. التاريخ الإسلامي، محمود شاكر: ص 101، الخلفاء الراشدون.

[2]– التّمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد” (10/157)

[3]– متفق عليه.

[4]– مسند أحمد 3\166. البغوي في شرح السنة ذ3535. النسائي في السنن الكبرى 10633. وعمل اليوم والليلة رقم 863.

[5]– سنن أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم (4798).

[6]– الآداب الشرعية،لابن مفلح (1/136).

[7]– كتاب الإخلاص والنيةلابن أبيالدنيا ، ص:54.وكتاب الإيمان لابن تيمية ص: 11.

[8]– سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب عمل السر.

[9]– أعله الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار. فهو ضعيف.

[10]– كتاب الأدب المفرد للبخاري، ص: 761.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى