“قيمة التوكل ” ودورها في بناء الأسرة المسلمة (1) – عبد الرحيم مفكير

تقديم:

تعتبر الأسرة الخلية الأساسية التي يتركب منها جسم المجتمع الكبير، وما المجتمعات إلا مجموعة أسر تعيش معاً، ترتبط فيما بينها بقوانين وأنظمة تحكمها، وبذا تتكون الدولة ويكون الوطن. فإذا كانت الخلية الأساسية (الأسرة) سليمة قوية كان المجتمع كلّه سليماً قوياً، وإذا كانت الأسرة مفككة في علاقاتها، متباينة في الفكر والسلوك، انعكس ذلك كلّه على المجتمع فأصبح مفككاً مهزوزاً ومهزوماً، ولقد اهتم ديننا الحنيف بمراحل بناء الأسرة حتى تستقيم مهامها وتؤتي ثمارها كخلية صالحة في المجتمع ليصلح المجتمع كله، وقليلا ما ينتبه إلى دور قيمة التوكل في الإعداد لبناء الأسرة وتماسكها.

التوكل مفهومه، حقيقته، ثمرته، فوائده:

التوكل هو الاعتماد على الله وعلم القلب بكفايته سبحانه لعبادة، مع التسليم والرضى والثقة بالله، والطمأنينة إليه سبحانه، وتعلق القلب به في كل حال، والبراءة من الحول والقوة إلا به. ولا ينافي هذا كله الأخذ بالأسباب، وهو ثمرة من ثمرات الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والعلم بأسمائه وصفاته من القدرة والمشيئة والكفاية والعلم، وهو من أعظم المنازل والمقامات عند الله تعالى بل هو علامة الإيمان، قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]. وقال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]. ومن توكل على الله تعالى كفاه وهداه، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]. وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتوكل، فقال: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل:79]. وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3].

وثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وفيه: …ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب. ثم دخل ولم يبين لهم، فأفاض القوم وقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله فنحن هم أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون. وفي الترمذي من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً” وفي السنن الأربع من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال -يعني إذا خرج من بيته- بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: هديت ووقيت وكفيت، فيقول الشيطان لشيطان آخر، كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي.

وفي مدارج السالكين: التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل. ثم بين العلامة ابن القيم أحوال المتوكلين فقال: فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وفي محابه وتنفيذ أوامره، ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامة في نفسه، وحفظ حاله مع الله فارغاً عن الناس، ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله من الرزق أو عافية أو نصر على عدو أو زوجة أو ولد ونحو ذلك، ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش. ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله.. فإن كان هذا الشيء محبوباً مرضياً عند الله كان للعبد فيه العاقبة المحمودة، وإن كان هذا الشيء مسخوطاً مبغوضاً عند الله كان للعبد فيه المضرة والخسارة. والتوكل كما قال العلامة ابن القيم: هو عمل القلب، فليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات.

وثمرته: الرضا بالقضاء والقدر، وكسب الإنسان القوة والجرأة والشجاعة ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12]، وعدم الندم على ما لم يحصله (…احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان” رواه مسلم في صحيحه، الحديث رقم 2052، 2664.

نخلص إلى أن حقيقة التوكل وفوائده؛ وثماره، انطلاقا من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا”.

  • التوكل هو الاعتماد الكلي على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب.
  • التوكل عبادة قلبية عظيمة تنضم إلى عبادة الزهد والرضا والشكر والمحبة وسائر مقامات اليقين.
  • التوكل عنوان للإيمان وشرط لصحته.
  • التوكل على الله ليس في طلب الرزق فحسب، بل في العبادة إخلاصا وإحسانا، راجيا القبول من الله بصدق التوكل وحسن الظن بالله جل شأنه.
  • التوكل وسط بين طرفي نقيض، وهما الاعتداد بالنفس، ونسبة الفضل لما يبذل الإنسان من جهد وتعب وحرص.
  • التوكل ليس هو القعود والتقاعس وعدم الأخذ بالأسباب، إنما ذلك شان التواكل.
  • المتوكل يتشبث باسم الله الوكيل.

ثمار منها:

  • كفاية الله تعالى للمتوكل في كل الأمور، لقوله عز وجل: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه”.
  • الشهادة له بالإيمان. لقوله عز وجل: “وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين”
  • الرضا بحكم الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال، وعدم الندم على ما فات.

التوكل أساس بناء الأسرة المسلمة:

لقد اعتنى الإسلام عنايةً عظمى ببناءِ الأسرةِ وصونِها من أي سهام توجه إليها، ذلكم أن الأسرة قاعدة المجتمع، ومدرسة الأجيال، وسبيل العفة وصونٌ للشهوة، والطريقُ المشروعُ لإيجاد البنين والأحفاد وانتشارُ الأنسابِ والأصهار فبالزواج المشروع تنشأ الأسرة الكريمة وتنشأ معها المودة والرحمة، ويتوفر السكنُ واللباس، إنها آيةٌ من آيات الله يُذكرنا القرآن بها ويدعونا للتفكر في آثارها وما ينشأ عنها (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21]. وهي وما يتفرغ منها نعمةٌ ومنةٌ ينبغي أن نشكر الله عليها (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [النحل:72]. إن من هدي الإسلام في بناء الأسرة الأمر بالعشرة بالمعروف (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 19].

ويقول عز من قائل:(فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة: 229]. وخلاصة العشرة بالمعروف: تطييب الأقوال وتحسين الأفعال والهيئات –حسب القدرة- واستدامة البشر ومداعبة الأهل وتوسيع النفقة دون إسراف وقيام كل من الزوجين بما يحب أن يقوم له الآخر فيؤثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إني أحبُ أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي. وإن أكمل المؤمنين إيمانا من حسن خلقه قال عليه الصلاة والسلام: “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم”. وفي مقابل ذلك تقل خيرية من تشتكي منه النساء. وفي محمدٍ صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة وهو القائل: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.

ولن يتحقق هذا البناء المتين إلا بالأخذ بالأسباب قبل الزواج وأثناءه وعند تربية الأبناء ورعايتهم، وفي القرآن الكريم والسنة النبوية شواهد على ذلك، ومن ترك سنة التوكل على الله، يعيش الحياة الضنك بإعراضه وعدم امتثاله لأمر الله، واتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى