علاج الاختلالات الأسرية المعاصرة بين الشرع والواقع – الحبيب عكي
لقد ظلت الأسرة على الدوام شرعية ذات هوية ومرجعية، فضاء للراحة والاستقرار، فيها يتم الحوار ويتخذ القرار، محضن للتربية على القيم والأخلاق، وهي النواة الفطرية والأساسية للمجتمع ،وهي كما يقول أحدهم:”هي المعقل الأخير للأفراد عندما تتغول الدولة من دولة الرعاية إلى دولة الجباية والتخلي عن المواطن، وعندما تتمزق الأمة ويصبح بأس أبنائها بينهم شديد، وتطغى العولمة بمواثيقها وطوابيرها الخامسة، ففيها سيجد المرء حاجته من السكن والمودة والرحمة والرعاية، الإنفاق والعناية الممتدة إلى جميع الأطراف، إنها شرنقة لتنفس الهواء النقي والقيم غير الموبوءة، فلا يخشى على مستنشقها ومطعمها من الهلاك والإهلاك.
هذا وقد عرفت الأسرة خلال تطورها ومسارها التاريخي اختلالات وتحديات، وفقدت خصائص ورهانات، ودخلت في انحرافات ومتاهات، اختلطت فيها القديمة العتيقة والجديدة المستحدثة، ومست هذه التحولات حتى الهوية والمفهوم والرسالة والمكتسبات وغير ذلك مما يجعلها أسرة. والواقع أن ما سارت وتسير إليه هذه الأسرة الحصيلة أو”الحصلة” ليس بالضرورة بالمسار الأفضل وإن كان معاصرا حداثيا بل قد يكون السبب في تفككها ومشاكلها، كما أن ما تهجره من أصالتها ليس بالضرورة سبب تخلفها ومعاناتها بل ربما إذا أحسن فهمه وأتقن تطبيقه على الوجه الصحيح، كان ذلك بمثابة البلسم لجراحها والدواء الشافي لاختلالاتها المعاصرة التي لا تبقي ولا تذر.
1 – على مستوى اختلال الهوية:
يكتسح الساحة المجتمعية اليوم من أشكال وأنماط الأسر التي يحاول البعض التطبيع معها والدفاع عنها وهي سبب كل الكوارث التي تعرفها الأسرة والمجتمع، مثل العلاقات الرضائية(زنا) والزواج المدني(سفاح)، الزواج العرفي (سري قد لا يحفظ الحقوق) وزواج المتعة (متعة)، والأمهات العازبات(40 ألف اغتصابا أو غواية أو رضا)، وما يجهزن به على المجتمع بأبناء الشوارع (حوالي 200 طفل يوميا) وما يشغلن من ملاجئه مستقبلة وجمعيات مساعدة بقوة الواقع، الأسرة المختلطة التي تستبعد شرط التدين خاصة من البنات(حفظ الدين)، الأسرة الرابطة بين الآدميين والحيوانات من القطط والكلاب(حفظ النسل)، الأسرة المثلية من السحاقيات واللواطيين(وفيها غياب كل المقاصد)، كل هذا يرفضه الإسلام ويبني أسرته على كتاب الله وسنة رسول الله ما يجعل منها أسرة شرعية ذات هوية ومرجعية، كل أفرادها يجتمعون على عبادة الله والاستقامة على دينه وبينهم ميثاق غليظ يوفر لهم من السكن والمودة والرحمة والحقوق والواجبات بقدر ما يلتزمون به.
2 – على مستوى اختلال أبناء الشوارع:
الذين يأتي جلهم من التفكك الأسري والهوية المجهولة والضحل التربوي وما قد يجني به على بعض البنات اللواتي يقعن ضحايا الحمل والاغتصاب أو العلاقات الرضائية(زنا)، وقد يأتون أيضا مما قد تصاب به الأسرة من الترمل واليتم أو قد يسود فيها من الفقر والتوتر والعنف والقساوة، وعلى أي ففي الوقت الذي يكون فيه الشارع البهيم في الحياة المعاصرة هو الملجأ لكل هذا الرهط، ففي الأسرة المسلمة تكون هناك حاضنة لمآسيها ومتحمل لعارها،فإذا بابن الطلاق وابن السفاح واليتيم وغيره لا يكون لقيطا في الشارع سائغا لهوامه، بل يجد له كنفا آويا من أقرب الناس إليه عما أو عمة أو خالا أو خالة أو حتى جارا أو جارة أو محسن أو محسنة، يكونون له بمثابة الوالدين ويتولون أمره وتربيته وتغذيته وكسوته وكافة أصناف الإنفاق عليه، ولا يتركونه عرضة للشارع أو نزيل ملاجئ خيرية أحسنت إليه أو أساءت.
3 – على مستوى اختلال دور العجزة:
ورغم كونها تنتشر في المدن والمدن الكبرى، ورغم كون بعض العجزة في أمس الحاجة إليها لظروفهم الاجتماعية المزرية، ورغم كون بعض الأبناء (مساخيط الوالدين) بدؤوا يتنافسون على إيجاد أحسن الدور لآبائهم كما كان آباؤهم بالأمس يتنافسون على إيجاد أحسن المدارس الخصوصية لدراستهم، ورغم كون بعض الزوجات -هداهن الله- لا يطقن التعايش مع الآباء والأجداد ويضعن ذلك شرطا لاستمرار الحياة الزوجية مع أبنائهم، ورغم..ورغم..فإن الأسرة المغربية لا زالت في مجملها حاضنة لكل أفرادها الكبار والصغار وبالمطلق، وتمنحهم من الحب والرعاية كل ما في وسعها، بل منها من لا زال يمتع أبائه المسنين بكل السلطة والمشورة والقرار في الكبيرة والصغيرة إلا أن يأبى، وكل ذلك بدافع ديني:”وبالوالدين إحسانا”، وخوفا من توالي الأيام وأن يرد الأبناء دينهم للآباء تماما كما هم قد فعلوه بالأجداد، فدار العجزة دين من حمل آباءه إليها يوما سيحمله أبناؤه إليها و”كما تدين تدان”.
4 – على مستوى انتشار العنوسة والعزوف عن الزواج:
وما تسجله المعضلة اليوم من أرقام مهولة (8 ملايين عانسة) ضاربة بعرض الحائط كل ما كانت تتصف به الأسرة المغربية من الحرص الشديد على العفة والاستقامة وستر البنين والبنات بهروبهم إلى الطاعة وإكمال دينهم بالزواج، والزواج الطبيعي والعادي الذي تسبق فيه النية والنية الصافية كل مظاهر الغلاء في المهور أو التكاليف والطقوس لا يزال موسم الخطوبة في إميلشيل والزواج الجماعي في العديد من المناطق والتظاهرات شاهدا على ذلك، وتأبى الشريعة إلا أن تغلق كل منافذ الحضارة المادية المعاصرة في الموضوع من انحرافات الرهبنة والحرمان أو مقابلها التهتك والحرام الذي يبيح الزنا والخليلات، بديل الإسلام أنه يدعو إلى تأهيل الشباب لاستطاعة الباءة بالدراسة والعمل، بغض البصر وبالصوم وهو وجاء، وبالتعدد ولا يزال تعدد الزوجات في العلن والحلال أفضل من تعدد الخليلات الذي قد يلجأ إليه الرافضون في السر والحرام.
5 – على مستوى اختلال البطالة وتراجع التضامن:
وهي اليوم تستفحل في المجتمع بتمظهرات متعددة، فقدان العمل..انتظارية..إجازات معطلة..تجارة موسمية..مهن هامشية..هجرة قسرية..أعمال وضيعة في المهجر..انحرافات أخلاقية قد تزيدها الأنانية والرغبة في الربح والربح السريع والتمرد على القوانين، الانغماس في التجارة في الممنوعات والتيه في متاهات الشبكات والعصابات عكس الأمس الذي كان يسود فيه التماسك الأسري والتضامن الاجتماعي والاهتمام بالجميع على كل المستويات، حتى أنك قد تجد الإبن الأكبر في الأسرة أو الموظف البكر أو المهاجر الأول هو الساعي على كل أفراد الأسرة النووية والممتدة، بل وقد تمتد تضحياته وإحسانه إلى الأقارب المحتاجين من الأخوال والخالات والأعمام والعمات بل وحتى بعض الجيران والجارات، وكم عاش المغاربة ولا يزالون بهذا النفس التضامني رغما عن غول وجشع الاقتصاديات الرسمية، فأبدعوا “دارت” زوجتهم وجهزتهم وبنوا بها المساكن وامتلكوا السيارات، وأبدعوا “التويزة” حفرت لهم الآبار وشقت لهم الطرقات وحصدت لهم الأراضي والمساحات دون جعجعة المشاريع واستجداء المساعدات ،وهناك أيضا عادة”القفة والقصعة والوزيعة” التي يفتكرون بها الأرامل والمساكين ويضمنون حقهم مما قسم الله من المأكولات والملبوسات، و”ضيف الله” التي بنت لهم دار الجماعة لعابري السبيل وسفرت أبنائهم في الصيف عبر البلاد يقيمون مرحبا بهم عند أقربائهم من أهل المدن والبوادي.
6 – على مستوى اختلال التعليم الأولي:
والذي عجزت الدولة حتى اليوم في تعميمه رغم مفصليته في إصلاح التعليم، لكن المساجد ودور القرآن في المدن والقرى كانت تقوم به ونجحت في تعميمه ودمقرطته وتقريبه من الجميع دون تكلفة، فكان كل الأطفال يبدؤون به حياتهم ولا يلجون المدرسة إلا وهم قد حفظوا شيئا من القرآن الكريم وشحذوا ذاكرتهم لحفظ المزيد، وتعلموا الأبجديات الأولى للقراءة والكتابة، وألفوا الاندماج مع الأقران مما يسهل عليهم بقية الدراسة وطقوسها، واليوم تعمل بعض السياسات المغرضة على اتهام هذه الدور التربوية التنموية وإغلاق بعض هذه المساجد والجمعيات ضدا على حق المواطن في الأمن الروحي والحق التنظيمي، فلمصلحة من كل هذا الشطط والفتنة.
ترى كيف يعي الفاعلون هذه الخصوصية والموروث الحضاري للأمة الإسلامية؟ كيف يمكن أن يستفيد منه السياسيون والاجتماعيون والاقتصاديون، وكيف يمكن للحكومات أن تترجمه إلى برامج أسرية تنموية معاصرة بدل مصادمتها وتجاهلها أو رفضها ومصادرتها؟؟ كيف ستعي الأسر الفروق الواضحة بين هذه المعالجات الأصيلة والحلول المستوردة والغريبة عن بيئتنا وطبيعتنا؟؟ وإلا فأين أسرنا من القرارات الأممية لمؤتمر السكان، ومقاربة النوع، والمقاربة الحقوقية بمطلقها؟ لماذا تزداد فيها كل المعضلات السابقة الذكر(8 ملايين عانس..100 ألف حالة طلاق..40 ألف حالة اعتداء جنسي..400 ألف هدر مدرسي.. 600 ألف مشغل قاصر…150 ألف حالة تنصير..) وكيف ستعالجها وهي المبنية على الصراع والتوتر والغلبة بدل الكرامة والسكن والمودة والرحمة والتكامل؟