القراءة.. ذلك السر الإلهي
بعدَ أن عمَّ الظلمُ أرجاءَ الأرضِ، وأُسدِلَتْ سُتُر الجاهليةِ على العقولِ والأرواحِ فحجبَتْها عن النورِ الأعظم وسارَت بها نحوَ صحراءِ الجهلِ حتى أسكنَتها بوادٍ غير ذي زرعٍ إلا من أشواكِ الجهالةِ، قَفْر إلا من ينابيعِ الغوايةِ والضلالةِ، تتيهُ فيه الألبابُ عن مرادِها، وتضلُّ العقولُ عن أسبابِ وجودِها، تعيشُ في كنفه الأجسادُ وتفنى الأرواحُ، وما ذاك إلا لأنها حُجِبَت عن غذائها المقدسِ واكسيرها العظيمِ ومفتاحِ سَكينتِها والبابِ الذي تلِجُ منه إلى فُسحةِ الخلودِ، والمعينِ الذي تروي به ظمأها والنورِ الذي يُضاءُ به ليلُها ؛ إنه نورُ الوحي الذي ما تهاطلَ غيثُه على أرضٍ إلا أثمرَتْ وأينعَتْ، ولا أشرقَتْ شمسُه على غبراءَ إلا استنارَتْ وألمعَتْ .
وتتابعَتِ السنونُ وانقضَتِ الأيامُ والناسُ في ظلماتِهم يتخبَّطون، حتى أذِنَ الله للفجرِ أن يبزُغ، وللّيل أن ينجلي، وللشمسِ أن تسطعَ، وللظلمةِ أن تزولَ، ولصوتِ الحقِّ أن يُرفعَ، وللباطل أن يخنسَ، وللعلمِ أن يسموَ، وللجهلِ أن يتردَّى؛ أتى مِن اللهِ أمرٌ لا مردَّ له، أرسلَ اللهُ أمينَ وحي السماءِ إلى أمينِ الأرضِ، ليبلغَه الأوامرَ الربانية الأولى، ويرسمَ له سبيلَ الخروجِ بالبشريةِ جمعاءَ من حضيضِ الجهالةِ ووحولِ الضلالةِ إلى سماءِ العلمِ ونورِ الفهمِ، لقد ابتدَأه منذ الكلمة الأولى بالدعوةِ إلى تلكَ الوظيفةِ العظيمةِ، والطريقةِ القويمةِ، والسبيلِ السليمةِ، فكانَت أولَّ الكلماتِ وأشرفَ الدعواتِ (اقرأ)، اقرأ حتى تنجليَ عن الناسِ غِشاوةُ الجهلِ، اقرأ حتى تستكينَ النفوسُ، اقرأ حتى تعيشَ الأرواحُ، اقرأ حتى تسموَ العقولُ، اقرأ وأزلِ الرانَ عن القلوبِ، اقرأ فإنَّ في القراءةِ حياة.
فسار المصطفى صلى الله عليه وسلم بين الخلائقِ يدعوهم إلى قراءةِ آيات اللهِ والتفكرِ في مخلوقاتِه، وإلى تحريكِ العقولِ الراكدةِ، ونبذِ الأوهامِ البائدةِ، والخروجِ من قيعانِ الظلماتِ إلى مراقي النورِ، ومن وحولِ الشك إلى طُهْر اليقين، واستمر في دعوتِه دون كللٍ أو ملل، حتى كشفَ الله به غمَّةَ الجهلِ والضلالِ، فكانَ معلِّم البشريةِ الأول، لم يكن عبثًا ولا صدفةً أنْ جعلَ الله عز وجلَّ أوَّل الأوامرِ (اقرأ) – وحاشاه سبحانه -، فالواقع الذي تمرَّ به أمتنا اليوم يدلُّنا على أعظم أسبابِ التردي والتخلفِ الذي انحدرنا إليه، إنه الركونُ إلى راحةِ الجهلِ والعزوفُ عن مشاقِّ العلمِ، إنه مخالفةُ الأوامر ونزولُ الرماةِ عن جبلِ العلمِ حتى غدَتْ حصونُ المسلمينَ مهددةً وظهورهُم مكشوفةً يرميها كلُّ طاعنٍ وحاقدٍ بسهام الشبهاتِ الرخيصةِ .
إن التاريخَ ليأبى أن يرفعَ في صفحاتِه ذكرَ رجالٍ ألفوا الجهلَ والعمى، واستحبوا الضلالَ على الهدى، وتنكَّبوا طريقَ العلمِ، ذلك الطريقُ الذي لا يسلكُه إلا الذين عرفوا حقَّه فجعلوا للقراءةِ نصيبًا من أيامِهم وعلموا أنَّ عطشَ الأرواحِ وضعفَ النفوسِ ومرضَ القلوبِ لا يرويه ولا يشفيه إلا الغوصُ في بحارِ الكتبِ والتحليقُ في سماءِ العلمِ، والسيرُ على خطى السابقين، والاستماعُ إلى حديثِ الأوَّلين، واللحاقُ بركبِ العالمين العاملين، فآثروا هذا الغذاءَ على طعامِهم وشرابِهم وقضَوا معه أكثر أوقاتِهم حتى أفنَوا في سبيلِه أعمارَهم، وتركُوا لأجله شهواتِهم حتى غدَتْ مشقتُه أعظمَ اللذاتِ وفراقُه أفدحَ الخساراتِ.
يظن البعض أنه من الصعبِ أن يتركَ أحدُنا ملذاتِه ويعكفَ على الكتبِ وحيدًا من غير مؤنسٍ، ولكنْ ما هي إلا صفحاتٍ يتلوها حتى يصيِّرُها حبيبَه الأول الذي لا حبَّ إلا له، وصديقَه المخلصَ الذي يقاسمُه همومَه، وجليسَه الذي لم يحُز مثلَه بين الأنامِ، وأهلَه الكرام حتى وإنْ ضنُّوا، إن المرءَ إذا أرادَ أن يعيشَ أكثر من حياةٍ في آنٍ واحدٍ فعليه بالقراءةِ، فإنَّ كلَّ كتاب يقرؤه يحملُ في طياتِه أحلامًا وآمالًا وأفكارًا أودَعها الكاتبُ إياه وزينها بأثمنِ الألفاظِ وأصدقِها، وأخرجَها للناس بأبهى الحُلل، إنها خلاصةُ حياتِه وعصارةُ أفكارِه وأعظمُ ما سما إليه عقلُه، واللبيبُ هو الذي عرفَ هذا فسابقَ الليلَ والنهار لينهلَ من هذه الينابيعِ ويرتويَ من مائها العذبِ الزُّلال الذي جعله الله لذةً للقارئين.
إنَّ المرءَ إذا أراد أن يحيا مع أحبابِه السابقين ويبصرَ أفعالَهم وأقوالَهم فليس له إلا القراءة سبيلًا، وكفى بها عذوبةً وجمالًا أنَّها تجمعُ الأحبابَ بين دفتين، إنها تلاقحُ الأقوالِ والأفعال وتمازجُ العلومِ وتكاثرها والإناءُ الذي تتفاعلُ فيه الأفكارُ، والسبيل الذي تعرفُه أقدامُ التجديد جيدًا، واللحنُ الذي تُنصت إليه آذانُ الحضارات، إنها القراءةُ فلا تجعلْ للعزوفِ عنها إلى قلبك سبيلًا . فإذا أردتَ أن تكون لبنةً في صرحِ الأمةِ العظيم فاجعل للقراءةِ كما للطعام والشراب من حياتك – وإن كنتَ أحوجَ إليها منهما – فليكنْ لكَ وِردٌ على مائها في كلِّ يوم، ولتجعلْ من شذاها عطرًا تتعشق به في كلِّ صبحٍ وليل، وليكن صوتُها لحنُكَ الذي تغفو بينَ يديه، واعلم أنَّها اليومَ حروفٌ تُقرأ وغداً مصابيحُ تُنير، وعندَ الصباحِ يحمَد القومُ السُّرى.
محمد نسيم