الإعلام الجديد والمقاومة
المقاومة بما هي مواجهة شاملة للعدوان، لا تقتصر على المقاومة المسلحة التي هي حق مشروع في ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن بل هي قبل ذلك وبعده لها أبعاد فكرية وإعلامية. وهو ما يتضح من خلال الدور الذي قام به الشعراء في عصر النبوة ، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يستنهض همة الشعراء للذوذ عن رسالته ورسوله ، إذ أن الشعر أنذاك كان يعتبر إعلام العصر و “منصة التواصل ” الأكثر تأثيرا في النفوس.
كان النبي ص يستحث الشعراء المسلمين، ويستنهض همتهم الأدبية والشعرية كي يردوا على شعراء المشركين بما يفحمهم حينما رأى تأثير شعر: عبد الله بن الزبعري، وعبيده المخزومي، وأمية ابن أبي الصلت، وانتشاره بين الناس، وفعله في النفوس!! فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: “أجب عني: اللهم أيده بروح القدس”.
وروي كذلك أن النبي عليه السلام قال لكعب بن مالك: “أهجهم: فوالذي نفسي بيده، لهو أشد عليهم من النبل”.. فكان الشعراء الإسلاميين ولشعرهم آثار ملموسة في تأييد الدعوة الإسلامية، وأنشد كعب بن مالك قصائد كثيرة في الرد على شعراء المشركين، كان لأكثرها الأثر البالغ في مجتمع كان فيه للشعر أثر بالغ في النفوس.
غير أننا نلاحظ أن واقع الأمة الإسلامية ما تزال فيما يتعلق ب” الإعلام الجديد ” ووسائل التواصل الرقمي ومنصاته الكبيرة، مجرد أرقام تزيد في حجم مداخيل المسيطرين على هذا المجال ومنصاته العابرة للثقافات، فنحن لسنا سوى مستهلكين ومتأثرين أكثر مما نحن مؤثرون، علما أن هذه المنصات هي جرء لا يتجزأ من الاستراتيجيات الأمنية والأسلحة الناعمة في معركة الأمم والدفاع عن كيانها وعن صورتها ، وأداة من أدوات التدافع القمي والثقافي ، وحضور فقط من جهة الاستخدام والاستهلاك
و المنصات العالمية الكبري عكس ما تظهره من أنها فضاءات للتعبير، لكنها حرية تعبير ظاهرية مقيدة يقيود، بل هي منصات وفضاءات متحيزة؛ منصات ظاهرها حرية التعبير وباطنها الرقابة واعتماد سياسية الحجب والمنع بمعايير متحيزة للرؤية الغربية المخترقة من قبل الرؤية الصهيونية.
على الرغم من أن استخدام هذه المنصات والولوج إليها متاح، فإن هذا الاستخدام مقيد بعدد من القيود ، وهو ما تأكد أكثر بمناسبة معركة “طوفان الأقصى” وغيرها من المعارك التي خاضتها المقاومة حيث يتأكد من خلال التتبع ما يلي:
– تحيز كبريات المنصات ضد فلسطين ونضال شعبه ومقاومته الباسلة، شأنها شأن الإعلام الغربي السمعي والبصري والمكتوب حيث اتسعت دائرة المقدسات فيها ودائرة الممنوعات والخطوط الحمراء.
– تبنيها في الغالب للروايات والسرديات الصهيونية من منطلق أن الكيان الصهيوني خط أحمر، ومقاومته عنف ومعاداة للسامية و التشكيك فيها قد يعرض للمتابعة والمحاسبة والتقييد وسياسات الحجب.
– اعتبار نشر صور الممارسات الإرهابية الصهيونية ومشاهد الإبادة الجماعية، ونشر استهداف المدنيين العزل خلافا للمواثيق الدولية بحجة غير ملائم وتتعارض مع سياساتها ومع قواعد النشر.
– تعريض المضامين التي تعرف بالمقاومة للحجب باعتبارها إشادة بمنظمات وشخصيات إرهابية من خلال استخدام ذريعة التعارض مع معايير النشر عند نشر حقائق تتعلق بالإجرام الصهيوني، و نشر صور الأشلاء والجثت المدفونة تحت الركام الناتجة عن الغارات الصهيونية المجنونة التي تستخدم أحدث القنابل لدك العمارات والمنازل وتسويتها بالأرض، مساسا بالشعور العام ويتعارض مع السياسات المعتمدة من قبل هذه المنصات مما يؤدي إلى تعريض تلك المضامين للمنع بطريقة أتوماتيكية من خلال خوازيزميات تحجب المضمون تلقائيا.
– اعتبار كل تدوينة أو تغريدة أو صورة تكشف حقيقة العدوان الصهيوني مصادرا بدعوى ترويجها لمضامين “صادمة “، وتتنافي مع سياسية النشر التي تعتمدها منصات؛ يبدو من الواضح تحيزها وكيلها بمكيالين، واستخدام تُهم وكلشيهات جاهزة من قبيل معاداة السامية ودعم الإرهاب لإرهاب المفكرين والسياسيين والإعلاميين والرياضيين وأصحاب الضمائر الحرة.
– هناك جهات صهيونية ومتصهينة متخصصة في استهداف المنشورات والتغريدات التي تفضح العدوان الصهيوني، وتحريك الشكايات وتقديم لوائح الاتهام ضد المنشورات والتغريدات، التي تفضح العدوان الصهيوني حيث يخوض الاحتلال الصهيوني حربا ضد المدونين الذين يفضحون جرائم الكيان الصهيوني ويكشفون حقيقته الإجرامية ويتابعونهم قضائيا :
وهذه بعض الأمثلة الدالة كما نقلها متتبعون للشأن الفلسطيني، وخاصة للحقل الإعلامي والمعركة الضارية غير الظاهرة الواقعة فيه:
– قدّمت النيابة العامة الإسرائيلية 17 لائحة اتهام ضد عدد من فلسطيني الداخل والقدس المحتلة بسبب منشورات داعمة لغزة على وسائل التواصل الاجتماعي، تصنّفها الحكومة الإسرائيلية في خانة التحريض وهو لا شك أنه يرتقع كل يوم.
– منذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 شهد الداخل الفلسطيني حملة اعتقالات غير مسبوقة بين ناشطين على منصات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى الرقابة الذاتية التي يمارسها الكثير من فلسطينيي الداخل خوفا من التوقيف.
– قامت المحكمة المركزية في حيفا مثلا، بتقديم لوائح اتهام ضد ناشطين على منصات التواصل الاجتماعي بتهمة التحريض، وتعرض عدد منهم للاعتقال بسبب منشورات عبّروا فيها عن دعم غزة. وبسبب منشوراتهم الإلكترونية عام 2021 خلال “هبة الكرامة” التي شهدها الداخل الفلسطيني.
– توسعت الاعتقالات والمتابعات منذ 7 أكتوبر، وانتقلت من دائرة استهداف الناشطين المعروفين والمؤثرين لتشمل مختلف شرائح المجتمع، بمن فيهم الطلاب والعمال والمحامون، وأحيانا بناء على شكاوى يقدمها ناشطون يمينيون ضدّ فلسطينيي الداخل. وبلغ الأمر إلى إلى أنّ أحد الأشخاص اعتقل واتهم بالشماتة والتحريض بسبب كتابته منشورا في 7 أكتوبر قال فيه: “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
– ملاحقة سلطات الاحتلا للفلسطينيين ومناصري القضية الفلسطينية من من خلال تتبّع منشوراتهم على منصات التواصل الاجتماعي. بل يمتد النفوذ الصهيوني لملاحقة موظفين ومغردين يشتغلون ضمن هيئات إعلامية سمعية وبصرية ومنصات رقمية دولية ومن أمثلة ذلك :
تبني كبرى الهيئات والمنصات الإعلامية للرؤية الصهونية، فبعد أسبوع على انطلاق “طوفان الأقصى”، فتحت هيئة البث البريطانية (بي بي سي) تحقيقا مع عدد من الموظفين في خدمتها العربية بسبب تغريدات ومنشورات “بدا كأنها تحتفي بالهجوم الذي أسفر عن مقتل حوالي 1300 إسرائيلي”.
وجاءت المتابعة، نتيجة تحريض من موقع كاميرا المناصر للاحتلال، والمتخصّص بتتبع ورصد تغريدات ومنشورات الصحافيين العرب العاملين في المؤسسات الغربية، ومن ثمّ التقدم بشكاوى بحقهم بحجة أنّهم “معادون للسامية”. ثم هناك سياسات التبليغات التي تقوم بها السلطات الصهيونية أو جهات يقظة متصهينة للتنبيه للمضامين الرقمية المناهضة للاحتلال أو التي تفضح إجرامه ، وهي التبليغات التي لم تنج منها متصة كبري مثل منصة “إكس” وصاحبها ماسك، والتي قادت هذا الأخير مؤخرا للقيام بزياره للكيان الصهيوني ل ” التكفير ” عن سماحه بنشر مضامين رقمية.
وكان صاحب منصة إكس أثار الإعجاب بمنشور، وصف بأنه معاد للسامية على منصته قائلا : “لقد قلت الحقيقة الفعلية”. وخلف هذا التعليق زوبعة من الاتهامات والهجوم على ماسك حيث أدان البيت الأبيض ما اعتبره ” ترويجا بغيضا لمعاداة السامية وقال إنه ترويج بغيض لمعاداة السامية من قبل ماسك، وأنه يحيل إلى نظرية مؤامرة قديمة ويشجع على الكراهية.
واتهم ماسك من انتقد المنصة بنضخيم عبارة مجازية معادية للسامية نشرت على المنصة، واضطر إلى رفع دعوى قضائية ضد جماعة ضغط ذات ميول يسارية ( صهيونية أو متصهنة ) التي اتهمت المنصة بالسماح بظهور منشورات معادية للسامية بجانب إعلانات تجارية. وتنص الدعوى القضائية التي رفعتها “إكس” أن مجموعة “ميديا ماترز فور أمريكا” تلاعبت بالبيانات في محاولة من أجل “تدمير” المنصة”.
وذهبت الدعوى القضائية إلى القول إن “ميديا ماترز عملت عن وعي وبنية خبيثة على فبركة صور بجانب بعضها البعض تظهر منشورات خاصة بمعلنين على منصة التواصل الاجتماعي لشركة “إكس” بجانب محتوى هامشي للنازيين الجدد والقوميين البيض، ومن ثم تقديم هذه الصور المفبركة وكأنها حقيقة ما يعايشه مستخدمي إكس العاديين على المنصة”.
وتضيف الدعوى: “إن ميديا ماترز صممت هذه الصور واستراتيجيتها الإعلامية الناجمة عن ذلك بهدف إبعاد المعلنين عن المنصة وتدمير شركة إكس”. واضطر ماسك بعد عملية الابتزاز تلك لزياة الكيان الصهيوني وعقد سلسلة اجتماعات استمرت يوما كاملا، ، حيث رافقه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في جولة في بلدة كفار عزة بغلاف قطاع غزة.
تلك الزيارة جاءت عقب إدانة البيت الأبيض لما اعتبره ” ترويجا بغيضا” لمعاداة السامية من قبل ماسك، (إثر إعجابه بمنشور قالت عدة جماعات حقوقية إنه يحيل إلى نظرية مؤامرة قديمة ويشجع على الكراهية). ولقيت الزيارة ترحيبا في الكيان الصهيوني، واعتبرها البعض تراجعا عن خطأ فادح، في حين استنكرها البعض الآخر ووصفها بأنها “حملة إعلانية” يسعى من خلالها رجل الأعمال إلى تلافي الأضرار التي لحقت بمنصة “إكس”.
هذه المعطيات تكشف حجم المعركة على منصات التواصل الرقمي، و تؤكد الحاجة لتعزيز الوعي بأهمية المواجهة الفكرية والثقافية على المستوي الرقمي.