كريم عيار يكتب: حتى الأسْر يشهد
من نصر إلى نصر، هي سلسلة متصلة من أوجه النصر تحققها المقاومة الإسلامية بغزة العزة، انطلاقا من عملية طوفان الأقصى المبارك، مرورا بالصمود إزاء العدو الصهيوني بإمكانيات بقدر ضعفها وبساطتها، بقدر قوة إمكانيات العدو الذي يأتيه الدعم العسكري من كل حدب وصوب، حتى صار الصراع في الحقيقة صراعا بين المقاومة الإسلامية وقوى الاستكبار العالمي، فحماس تقاوم وتحارب إسرائيل التي هي في الحقيقة صورة مصغرة لدول التحالف الصهيوني العالمي، الذي يتولى كبره الولايات اللامتحدة الأمريكية وابريطانيا وألمانيا وفرنسا…
والنصر هذه المرة بنكهة خاصة جدا، تتمثل فيما انتشر إعلاميا وشاع، وتوسع وذاع، من إكرام حركة المقاومة الإسلامية حماس وحركة الجهاد الإسلامي ضيافة الأسرى، من منطلق كفالة حقوق الأسرى في الإسلام، ورعاية أوضاعهم كما وجهت إلى ذلك الشريعة الغراء، والمحجة البيضاء، وإن المقاومة الإسلامية بذلك تبعث بالرسائل والإشارات، لجميع المنتديات في كل الاتجاهات، يلتقطها كل من يهمه الأمر، }لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ]{ق: 37 [.
وكما يقال بأضدادها تتمايز الأشياء، فما يزيد من إظهار البعد الإنساني الذي أبانت عنه المقاومة الإسلامية، هو الهجمة الهمجية الصهيونية في معاملة الأسرى الفلسطينيين، فكل وسائل الإعلام تتكلم عن المعاملة اللاإنسانية التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون في أبشع صورها من قبل أجهزة الأمن الصهيونية، حيث فقد الصهاينة أدنى حد المروءة والإنسانية خصوصا في معاملة النساء والأطفال. فمن يستحق أن ينعت بإرهابهم !!،أما إرهابنا فهو مصطلح قرآني شريف بمعناه ومبناه }وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]{الأنفال: 60 [
وما أجمل أن تكون أسباب النصر هذه، في الآن نفسه شواهد على عدالة القضية، وخصوصا منها السلوك الحضاري الذي يعامل به أهل الإيمان، أهل العدوان، وإن كان الإعلام الغربي المتصهين يسوق لصورة يظهر فيها أن دولة الكيان الغاصب دولة حداثية متحضرة تنتمي للعالم الأول، بينما يظهر غزة وفلسطين وكأن أهلها ينتمون للقرون الوسطى، لم تسطع عليهم شمس الحرية والحداثة التي يطبلون بها، وتناسوا أن المستشرقة زيغريد هونكه سبق أن ألفت كتاب “شمس العرب تسطع على الغرب”.
لكن مع هذا السلوك الحضاري لمعاملة أطياف المقاومة الإسلامية للأسرى، انجلى ما تبقى من غبش حقيقة الكيان الغاصب الذي يغرق في وحل الخسة والدناءة، بل والوحشية والبذاءة، بينما لاح التحضر والرقي في محيا رجال المقاومة مما شهدت به الصور والمقاطع الصوتية والمرئية، المنقولة عن الأسرى في وداع آسريهم وكأنهم كانوا في فسحة من أمرهم لا أسر.
ومما يزكي هذا الكلام الكثير من المشاهد والشهادات، منها شهادة الأسيرة دنيال والتي كانت بصحبتها ابنتها الصغيرة إيميليا، حيث قالت في رسالتها : “إلى الجنرالات الذين رافقوني في الأسابيع الأخيرة، يبدو أننا سنفترق غدا، لكنني أشكركم من أعماق قلبي على إنسانيتكم غير الطبيعية التي أظهرتموها تجاه ابنتي إيمليا، كنتم لها مثل الأبوين، دعوتموها لغرفتكم في كل فرصة أرادتها، هي تعترف بالشعور بأنكم كلكم أصدقاؤها ولستم مجرد أصدقاء، وإنما أحباب حقيقيون جيدون، شكرا شكرا شكرا على الساعات الكثيرة التي كنتم فيها كالمربية”.
وتابعت: “لم نقابل شخصا في طريقنا الطويلة هذه من العناصر وحتى القيادات، إلا وتصرف تجاهها برفق وحنان وحب، أنا للأبد سأكون أسيرة شكر، لأنها لم تخرج من هنا بصدمة نفسية للأبد، سأذكر لكم تصرفكم الطيب الذي مُنح هنا بالرغم من الوضع الصعب الذي كنتم تتعاملون معه بأنفسكم والخسائر الصعبة التي أصابتكم هنا في غزة”. وقال المراسل العسكري في القناة الـ13 الإسرائيلية ألون بن دافيد -خلال حوار تلفزيوني- إنه تواصل مع بعض الأسرى المفرج عنهم خلال الهدنة وقالوا إن مقاتلي حماس “جمعوا منتسبي كل كيبوتس (مستوطنة) مع بعض، مما أعطاهم إحساسا أكبر بالراحة”، وتابع “كانوا يجلسون ويتحدثون مع بعضهم البعض، ويقومون بأنشطتهم بشكل اعتيادي، ويستخدمون اليوتيوب”.
يا لها من صورة رقراقة، تحمل من كل معاني الرحمة والإنسانية إشراقة، تنتهل قيمها من كل آية دفاقة، وسنة شريفة براقة؛ كما تنتظم بها أحوال السلم، تنتظم بها أحوال الحرب؛ فكما للأولى مبادئ، فللثانية أيضا أخلاق، ياله من تكليف وتشريف وتخفيف.
وكما شهدت أحوال السلم على عدالة القضية، شهدت أحوال الحرب كذلك، بل وحتى الأسر شهد على نبل الأخلاق ورفعتها، وسمو السجايا ورقيها، إلى درجة أن العالم بدوله وتجمعاته بعد أن تمالأ، تفاجأ، والإعلام بقنواته وتحليلاته بعد أن شارك في لعبة التعتيم والخزي وانصهر، انبهر، تعافى بعد أن تغاضى، لكنه سرعان ما عاود حرب التحريف والتجديف، والتخريف والتخويف.
وإن تعجب فعجب ما صرح به متحدث صهيوني في وسائل إعلامهم المعلومة الملغومة، بعد أن استمع إلى شهادات الأسرى المفرج عنهم، معتبرا أن ما سمعه “يشعرنا بالخجل”، خاصة أن الأسيرة ليفشيتس قالت سابقا الكلام نفسه، فتم تكذيبها وقالوا إن حماس أثرت عليها”.
وقال مراسل هيئة البث العامة الإسرائيلية، أميشاي شتاين، في تدوينة بحسابه على منصة “إكس” (تويتر سابقا) “لقد سمعت انتقادات من أشخاص شاركوا في الدعاية الإسرائيلية في الأيام الأخيرة: إن سماحهم ليوخفد ليفشيتس بالإدلاء بتصريحات على الهواء مباشرة كان خطأ”.
فالحق كل الحق ما شهد به الأعداء.