الفاعل المدني وسؤال تمحيص الأطروحات – الحبيب عكي
كثيرة هي الأطروحات التي تؤطر حياة الناس، وتهيمن على مختلف تفاصيلها وطبعا الفردي والجماعي. ويبذل أصحاب هذه الأطروحات من المراكز الدولية والمؤسسات الوطنية ومختلف الفاعلين في السياسات العمومية والحياة الفكرية للناس، يبذلون قصار جهدهم للدفاع عن أطروحاتهم وفرض اعتمالاتها الإيجابية والسلبية في حياة الناس. هؤلاء الذين ينقادون لها بدورهم راغبين ومكرهين وأحيانا، بوعي منهم أو بغير وعي، ولكن في الاخير وبعد عقود وسنوات وحقب وولايات لا كثير شيء يتحقق، إن لم تتراجع الأمور عندهم إلى أسوأ مما كانت عليه وإلى عكس مقاصدها.
وكل الأطروحات الفلسفية والسياسية، التربوية والاجتماعية، البيئية والتنموية بشكل عام. تظل معلقة ليس بالأجهزة التنفيذية وعصابات الإيديولوجيا وسماسرة الارتزاق الذين يتحمسون لفعل كل شيء أي شيء وحسبهم ما يعود به عليهم من الريع الخاص والتمكين الزائف ولو على حساب الواقع الذي لا يرتفع والارقام والاحصائيات التنموية الكاشفة والمتردية في سلم التنمية ومعاييرها المعتمدة عند كل الدول الجادة والفاعلين الصادقين. الذين سعوا ويسعون إلى الرقي التنموي لوطنهم ومواطنيهم بعزم وصدق جماعي وحنكة وحكمة فتحقق لهم ذلك على أفضل وجه ممكن.
جميل جدا طبع فكر المبادرة إلى العمل دون كثير قول ولا فلسفة خاصه إذا كان التوافق والاجماع بين الفرقاء الفاعلين من الصعوبة والمستحيل بمكان. لكن كل أطروحة متهافتة غير صائبة المنطلقات ولا محكمة المداخل، خاطئة الحوامل وغير مضمونة المخرجات، فإنها لا تؤدي حتما إلا إلى عدم تحقيق المقاصد والغايات التنموية.
من هنا يظل سؤال تمحيص الأطروحات والمشاريع في بدايتها ضروري، وقديما قيل “العلم قبل العمل”. العلم واليقين وإحكام الحلقات والمنطلقات والمؤشرات والمآلات.. ولا شك أن مسؤولية تحقيق ذلك تقع على كل الأطراف المعنية والمؤهلة والمتخصصة من العلماء والخبراء والفاعلين والعاملين، مع توضيح وتفصيل ما يلزم كل طرف من الأطراف.
الفاعل المدني إذن ضمن المعنيين بحراسة وعي الأمة وتوجيه جهودها وتحليل مشاكلها والاجتهاد في إيجاد ما يناسبها من مقترحات الحلول لمشاكلها، خاصة وأن هذه المشاكل قد تعمر وتتفاقم وتصبح معضلات، وخاصة في الوقت الذي تعجز فيه العامة حتى عن الوعي بأزمتها ومعرفة ما يؤرقها ويسبب تيها في دوامه فارغة، وخاصة أيضا في الوقت الذي يستغل فيه المستبدون والمتحكمون والانتهازيون مثل هذه الظروف المعقدة والملتبسة لفرض حلول وهمية والاشتغال على مشاريع كبرى ربما تكون خارج الملف وبعيدة عن الأولويات. وربما الاشتغال على مشاريع لا تعالج المشاكل إلا بأعقد منها، وهي لا تلبث تعقد حياة الناس وأحيانا تفرغها من أي مؤشرات الحياة ومعاني الكرامة.
فمثلا، أطروحة العولمة المتوحشة اليوم، وأطروحة الكونية المطلقة، أطروحة الإسلاموفوبيا مقابل أطروحة “الدعشنة” والتطرف والإرهاب، مظاهر الانحراف الفكري والسلوكي في المأكولات والملبوسات، في العلاقات بين الجنسين والحريات الفردية، من مثلية ومخدرات وأكل حشرات، في التهجير والتفقير، في التهاب الأسعار.. وغيرها من قيم التطرف والعنف والهدر التنموي واليأس من إنصاف المواطن المسكين بشيء من العدالة الاجتماعية والمجالية، كل هذا بدأ يأخذ من سياساتنا في الدول النامية ما يأخذ، وبالمقابل أطروحة الخصوصية والمواطنة والهوية والمرجعية والأصالة والعدالة والانصاف.
وهي بحكم التبعية والإكراه تفقد من مركزيتها في سياساتنا ما تفقد. فأين الفاعل المدني من كل هذه الأطروحات ولا زال المواطن يصطلي بنيران ترجمتها إلى سياسات تنفيذية بشكل سيء. أليس مطلوبا من الناس أن يمشوا على صراط مستقيم كما حضهم الله تعالى على ذلك في قوله تعالى: “أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى، أمن يمشي سويا على صراط مستقيم” الملك/22؟
فدعاة اليوم بين مبشر ومنفر وميسر ومعسر، وبين من يجتهد ويبدع ومن يجمد ويقلد، من يحاولون استيعاب الجميع ويقبلون بهم ومن همه تفيئ الناس والحكم عليهم بأحكام قاسية. فأيهما صحت أطروحته واستوى نهجه؟ وهؤلاء الشباب بين من يعتزون بدينهم ويفتخرون بقيمهم ويجرؤون على إظهار ذلك، مقابل مستلبين مهزومين لا يلتزمون بدينهم ولا يفتخرون بقيمهم بل ربما عارضوها وناصبوها العداء واشتغلوا بالدعوة إلى التفلت منها وتبني ضدها، شابات يتشبثن بالعفة والحلال رغم العنوسة وقساوة الظروف، وشابات يسقطن في حبال الرذيلة وعصابات الغواية بأسماء ومسميات. أيهم صحت أطروحته ومؤمن مآله؟
وهؤلاء الجيوش من المعطلين بين من لا يفكرون إلا في الهجرة إلى بلدان الآخرين والقبول بالعيش في أحضانهم ولو في أقصى أعمال الإهانة في المقاهي والملاهي، مقابل من لا يزالون يرون الأمل في بلدانهم رغم كل شيء، وهؤلاء التلاميذ الذين يرون الدهاء في ممارسة الغش والسعي إلى النجاح بدون جهد اللهم ما قد يكون من جهد الآخرين، وهؤلاء السياسيون المراوغون، وهؤلاء المثقفون الصامتون، وهؤلاء التجار المحتكرون، وهؤلاء الإعلاميون المضللون، وهؤلاء.. وهؤلاء.. كل له أطروحته في حياته ينطلق منها، قد تكون عفوية أو مزاجية، ودون أن يمحصها يبني عليها حياته، فلا تحقق له غير الفشل وهو يريد النجاح.
ولكن، قد يكون للسياسي إكراهاته، وللاقتصادي إمكانياته وللإعلامي شهرته، ولكن الفاعل المدني ولكونه أكثر استقلالية وأكثر من لا يعمل لا تحت ضغط الاكراه ولا خنق المديونية ولا شح الميزانية ولا سحر الأضواء، فإن دوره أن يصدع بالحق حتى يساهم في تحرير الآخرين من كل ما سبق وقيوده التي لا تنمية تحقق ولا ميزانية تبقي. وحتى يتمكن الفاعل المدني من كذا دور وطني ريادي لابد له من أدوات اشتغال تسعفه في مهامه النبيلة ومنها:
1- وعي الفاعل المدني بدوره الطلائعي في حياة الأمة.
2- وضوح وأصالة مرجعيته الفكرية في خضم التضارب.
3- سعة أفقه الفكري واطلاعه على مختلف تجارب الآخرين.
4- الروح النضالية والشجاعة اللازمة للصدع بالحق لا خوف ولا طمع.
5- الأصالة المدنية من حرية واستقلالية وسلمية وتطوعية دون طمع في السلطة.
6- العمل المؤسساتي في إطار فريق منظم منسجم مبدع مبادر باجتهاداته الجماعية.
7- النباهة الرقمية والافتراضية باستعمال التكنولوجيا الحديثة وأدوات التواصل الاجتماعي
8- العمل على تحفيز مناخات الإبداع وإعطاء البدائل عبر محترفات متخصصة جهوية قطرية ودولية.
خلاصة القول، أنه لا زال هناك دور أساسي للفاعل المدني في حياتنا خاصة عندما يسكت الساكتون وينحرف المنحرفون ويساوم المساومون ويتيه التافهون.. فهو الوعي الحر والأصيل، وهو المبادرة والقرب وهو المشاركة والالتقائية، وهو العلمية والموضوعية وهو الرقمنة الذكية والتواصل الاجتماعي العالمي الهادف. وهو التأليف والنشر في المجلات المحكمة، والترافع الحقوقي والتشريعي القوي في المنتديات الوطنية والدولية. وهو.. وهو الأمل الوقاد لتعزيز جهود الأمة وبعثها من الرقاد، بالحرية والمسؤولية بدل الفوضى والتيه في التفاهة. وبالإنتاج المرجعي الجاد والكفاية العامة بدل الاستهلاكية الجشعة، طروحات الآخرين المفضية ولاشك إلى الاستيلاب والتبعية وحلول مستوردة طالما جنت على الأمة ولا تزال في الهوية والقيم والحرية والكرامة كما في السياسات العمومية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.