الإدريسي يكتب: في مرْكزية القِيم في القُرآن الكَريم -1-
لا شَك بأن البحث في القيم من الموضُوعات المهمَّة والمحورية التي تتَّسم بقدرٍ كبيرٍ من الراهنية والجاذبية والاستشكال، نظرًا لتشابكه مع حقول معرفية عديدة ومجالات فكرية متنوعة، فموضوع القيم لما يزل بحاجة إلى البَحث واستئناف النّظر، لكون القيم مرتبطة بالاجتماع الإنساني، والاجتماع الإنساني يعرف تحولات عميقَة ومُهيلكة، وتغيرات مُعقدة ومتسارعة، هذا النّظر والاستئناف في مكتوبنا هذا مُؤطر بخلفية قرآنية ومرجعية حضارية ورؤية توحيدية.
وفي هذا السياق نحيل على بعض الكتابَات التي تناولت بالبَحث والدِّراسة عَلاقة القرآن العظِيم بالقِيم الحاكمة لتصورات الإنسان الداخلية وقنَاعاته الجَوانيَّة، والأخلاق النَاظمة لتصرفاته ومسْلكياته البرانيَّة، والتي عرفت زخمًا وتنوعا خصوصا في العقُود الثلاثة الأخيرة، سواء تعلق الأمر ببَاحثين وعلماء ومفَكرين من المَغرب أو المشْرق، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد: الدكتور طه جابر العَلواني في كتابه “التوحيد والتزكية والعمران محاولات في الكشف عن القيم والمقَاصد القُرآنية الحَاكمة” الصادر عن دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع – مركز دراسات فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وكتاب “منظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعُمران” للدكتور حسن فتحي ملكاوي، والذي نشره المعهد العالمي للفكر الإسلامي فرجينتا الولايات المتحدة الأمريكية، في طبعته الأولى سنة 2020م، والذي يعتبر تطويرا لأطروحة الدكتور طه جابر العلوان في مجال البحث في القيم.
كما نجدُ كتَابات الخبير التّربوي الدكتور خَالد الصَّمدي من المملكة المغربية، وهو متخصص في البحث في مجال القِيم ومنها كتابه “القيَم الإسلامية في المناهج الدِّراسية مشروع برنامج لإدماج القيم في التعليم الأساسي”، ضمن منشورات المنظمة الإسلامية للتربية و العلوم و الثقافة- الإيسيسكو- 1424هـ/2003م، وكتابه أيضا “القيم الإسلامية في المنظُومة التربوية: دراسة للقيم الإسلامية وآليات تعزيزها” الصادر سنَة الصادر سنة 2008، وكتاب مُؤسس شعب الدارسات الإسلامية بالمغرب “مدونة القيم في القرآن والسنة” الأستاذ الدكتور محمد بلبَشير الحسني، سنة 2008م، وكتاب الدكتور محمد الكتاني “منظومة القيَم المرجعية في الإسلَام” الصادر في طبعتين، الأولى سنة 2008 عن المنظمة الإسلامية للثقافة والعلوم، والطبعة الثانية كانت سنة 2011، عن الرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية طبعة مزيدة ومنقحة، كما نجد كتاب “النَّسق القرآني ومشرُوع الإنسان: قراءة قِيمية راشَدة ” للدكتور جاسم سلطان، الصادر عن مركز الوجدان الحضاري بدولة قطر في طبعة الأولى سنة 2018م، وفي السياق نفسه نحيل على دراسة جديدة تحت عنوان: “منظُومة القيم التَّوحيديّة: رؤية تأصيليّة لبناء علوم إنسَانيّة من منظور حضاري”، للكاتب الدكتور حسان عبد الله حسان، في طبعته الأولى، عن دار البلاغة، سنة 2019م، بالإضافة إلى تخصيص بعض المجلات لأعداد خاصة حول القيم من قبيل العدد المزدوج 2-3 الصادر عن مجلة “تحولات معاصرة، “لسان المركز المغربي للدراسات والأبحاث والمعاصرة، تحت ملف: “القيَم والسُّلطة في السِّياق الإسلامي المعَاصر” ، شوال 1438هـ/يوليوز2017، ومجلة “قضايا مقاصدية” والتي خصصتْ عددها الرابع لملف: “المقَاصد، والقيَم الإنسانية رؤى تربوية ومعرِفية” الصّادرة عن جمعية البحث في الفكر المقَاصدي بالمغرب، طبعة 1439هـ/2018م، وكذلك الكتاب الجمَاعي المحكم :”إشكالات تنزيل القيم في المدرسة المغربية” إعداد وتقديم د.عمر الرويضي، الصّادر عن دار كلمات للنشر والطباعة والتوزيع سنة 2018م.
كما نشير إلى ما قام به الدكتور الحسان شهيد في مؤلَّفه الموسوم ب: ” القيم والإنسان في ضوء التدافع الحضاري المعاصر” الصادر سنة 2015 في طبعته الأولى، والذي يُكثف محورية القيم في البناء الحضاري الذي يضطلع به الإنسان المستخلف الشاهد.
كل هذه الكتَابات وغيرها تُبين بشكل جلي وواضح مركزية القِيم في التداول الفِكري الإسلامي المُعاصر، انطلاقا من مرجعية الوَحي، خصوصا القرآن الكريم، وهذا يدُل على أن البَحث في القيم بمرجعية قرآنية لما يزل في بداياته، وبالتأكيد يحتَاج إلى التَّرصيد والترشيد، والتأصيل والتّفعيل.
دون أن نغفل على مُعطى في غاية الأهمية وهو أن البَحث في “منظومة القيم” في السياق الغربي، قد بلغ شأوا عظيما وتطورا هائلا، لأن موضوع القيم من الموضُوعات المحورية التي شغلت الفكر الإنساني عموما والغربي خصوصا، فقد استأثر باهتمام الباحثين والمفكرين والفلاسفة، حيث اعتبروه أحد المبَاحث الثلاثة الكبرى للفلسفة وهي:( الموجود، المعرفة، القيم).
وفي هذه الورَقات والمقالات سنحَاول مقاربة منظُومة القيم في القرآن العظيم، من خلال تحديد مفهوم القيم وخصَائصها الوظيفية، وسماتها النَّسقية، وأهميتها العُمرانية، وأبعادها الحضَارية، ثم بعد ذلك مُحاولة استخراج النَّسق القيمي القرآني من خلال شبكة من القيم القرآنية التي تضمنتها آيات الذّكر الحكيم، ومحاولة ربطها بالرَّاهن الحضاري للأمة، واستنطاقها في مجالات الحياة المعَاصرة التربوية والثَّقافية والسياسية والاجتمَاعية والاقتصادية..
إن استثِمار منظومة القِيم القرآنية، هو أحد العنَاوين البَارزة لتدبر القُرآن المجيد وتثوِيره في حياة المسلِم فردا وجماعة وأمة، وإن غياب فعَالية القرآن الكريم في واقع المسلم فردًا، والأمة جماعة، يرجع بالأساس إلى ضمور فريضَة التَّدبر التي أمَر الله تعالى بها أمة الإسلام، وحثَّ عليها في أربعة مواضع واضحة وصريحة من القرآن المجيد، حيث يقول اللَّهُ سُبحانَه وتَعَالَى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. سورة ص، الآية:29، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾. سورة محمد الآية: 24، وقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ سورة المؤمنون الآية:68، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. سورة النساء الآية:82.
ولذلك أؤكد بإن تفعيل “منظومة القيم القرآنية” بمنهج التدبر وأفُق التدبير، هو القمين بإخراج الأمَّة من الوَهن الحضَاري والضّعف الاستراتيجي، عبر إعادة الاعتبَار للإنسَان تربِية وتكوينًا وتَأهيلا وتكْريما واستخْلافًا، فعَن عَلِيٍّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّتَكَ سَتُفْتَتَنُ مِنْ بَعْدِكَ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ سُئِلَ مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لم تنته الجن حَتَّى قَالُوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”. حديث مرفوع، سنن الدارقطني.
د. عبد العزيز الإدريسي – عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح