التدخين وسرطان الرئة: وداد أزداد
كطبيبة أشعة، يكاد يصبح اكتشاف أورام سرطانية في الرئة روتينا يوميا خاصة لدى الذكور, كوننا نصادف نادرا هذا النوع من السرطان لدى النساء والسبب واضح: إنها السجائر اللعينة.
يميل المدخن للاعتقاد بكل سذاجة أنه هو من يتحكم في السيجارة وليست هي من يتحكم فيه, ويظن أن جسمه سيعطيه إشارات إنذار قبل حدوث سرطان أو مشكل صحي جلل وبالتالي أنه سيقطع التدخين في الوقت المناسب.. ولكن جسده في الحقيقة يستغيث من أول سيجارة ينفث دخانها ويحاول طرد هذا السم المستنشق بنوبات من السعال العنيف, ثم يستسلم للأمر الواقع ويكتفي بنداء نجدة خفيف متمثل في السعال المزمن و”التنخيمة” (إفرازات) وبعض من فقدان الشهية.. وتمر الأيام ويترسب القطران والمواد السامة في الرئتين, وتحدث طفرات وتغيرات, ويظهر ورم يكون في البداية مجرد لطخة صغيرة nodule ثم يتسع نطاقه شيئا فشيئا, دون أن يتم اكتشافه مبكرا إلا في حال خضع المريض لسكانير لسبب اَخر, ويواصل التمدد دون أن يشعر الشخص بالضرورة بأي وجع لأن الرئة لاتحتوي على مستقبلات للألم, وقد يشعر بلكزة صغيرة لن يهتم بها غالبا لأنها ليست العرض الوحيد الذي يتسبب فيه التدخين.. ثم لانكتشفه نحن في الكثير من الحالات إلا عندما ينتشر الورم في غشاء الرئة أو عضلات الصدر أو في المكونات النبيلة التي يحتضنها القفص الصدري من أوعية دموية وقصبات حيوية, أي بعدما “فات الفوت”..
عند هذا المريض الذي استفاد من سكانير في مصلحتنا مثلا, ترون أولا بعض الثقوب Emphysème في الرئتين (الأسهم الخضراء) كنتيجة للتدخين المزمن الذي يدمرالرئتين تدريجيا لتصيرا كالغربال وأحيانا حتى يصير نسيجهما شبه مدمر كليا مع إمكانية حدوث استرواح قاتل Pneumothorax (أي وجود هواء ضاغط على الرئتين بسبب انفجار الحويصلات الرئوية), إنها الماركة المسجلة للمدخنين.. فحتى فحوصهم تفضح الجريمة التي ارتكبوها في حق أنفسهم.. ثم ترون بقعة مروعة عند نفس المريض (محاطة بالأحمر) وهي التي أعطت السرطان اسمه بسبب شكلها الشبيه بسلطعون بحر له أرجل مدببة.. وكما هو الأمر في الكثير من الأحيان فقد وصل الرجل في مرحلة متأخرة, حيث شرع السرطان (كما يبدو في مقاطع أخرى) في الانتشار في غشاء القلب وفي وريد رئوي (ينقل الدم المؤكسجن من الرئة للقلب).. كما سيطبق فيما بعد على القصبة الكبيرة التي تجلب الهواء لكامل الرئة اليسرى, وسيصاب المريض بالاختناق التدريجي.. والخطير في السرطان بالإضافة لالتهامه لكل مايجده في طريقه حتى لو كان عظما, هو أنه يطلق بعضا من خلاياه في الدورة الدموية أحيانا مما يجعله ينتشر في أعضاء أخرى ويخلق مستعمرات سرطانية جديدة, وهو ماحدث في الغدتين الكظريتين للمريض.. وأنا أكتب التقرير, كنت كمن يكتب حكما بالإعدام على المريض, ولم يكن الوحيد.
مريض اَخر في نفس اليوم كان يختنق في مصلحة الأمراض الصدرية والذي كان فحصه قد بين ورما ضخما لن يمهله طويلا, بعدما كان يبدو في اليوم السابق كما لو كان في صحة جيدة, فقط بعض السعال وسحنة رمادية يفضحان هؤلاء المدخنين من الخارج عادة..وكم مدخنا دخل قاعة السكانير على رجليه لأنه يشتكي من أعراض بسيطة رغم أنه يبدو “زي البومب”, وعندما ألقيت نظرة على الشاشة علمت أنه لن يعيش سوى أشهر بسبب انتشار السرطان في عدة أعضاء (والأعمار طبعا بيد الله)..
مرضى سرطان الرئة في مراحله المتقدمة لايقوم العلاج الكيماوي لديهم عادة سوى بتأخير تاريخ الوفاة, ولا يملك لهم الأطباء حاليا سوى بعض مسكنات الألم والأوكسجين لمصاحبتهم في أيامهم الأخيرة.. وقد تجد الواحد منهم يستنجدك ويتوسل إليك وعيناه جاحظتان باحثا عن بعض الهواء وهو لا يكف عن الحركة بسبب الاختناق, دون أن تستطيع فعل أي شيء له.. عجز مدمر حقا لكل من الطبيب والمريض.
الأمر لاينطبق طبعا على السرطانات في الأعضاء الأخرى التي ينجو فيها الأغلبية في المراحل الأولى.. وحتى بالنسبة لسرطان الرئة فهناك من يتم إنقاذه إذا تم اكتشاف المرض مبكرا بالصدفة بفضل الجراحة, وهناك من يستجيب للعلاج الكيماوي وبالأشعة, ولكنهم يظلون أقلية بالمقارنة مع أغلب مرضى هذا الداء في نسخته الخبيثة التي تصيب رئات المدخنين.
العلاج المناعاتي وكما فهمت خلال حضوري لاَخر مؤتمر دولي للأشعة السنة الماضية قد يغير الأمور فيما بعد, خاصة بعدما شاهدنا اختفاء ورم كبير لدى سيدة فرنسية ميؤوس من حالتها حسب ماتبين في سكانيراتها المتتابعة قبل وبعد هذا العلاج الثوري الذي أخذ مكتشفوه جائزة نوبل.. وكان أطباؤها في فرنسا من قبل قد نصحوها بالعودة للمنزل وتقبل مجيء الموت الوشيك لأنه مامن علاج لها, ولكن الورم اختفى تماما بفضل L’immunothérapie التي استفادت منها في أحد مراكز البحث.. إلا أن هذا النوع من العلاج لازال في بداياته حتى في الدول الأوروبية, ويعتبر جد مكلف مما سيؤخر استعماله بشكل موسع في المغرب مستقبلا, حيث لايستعمل إلا عند بعض المرضى حاليا في بلدنا والذين يشكلون أقلية صغيرة جدا جدا.
وعليه فرأفة بأنفسكم وبأطباءكم, أثبتوا أنكم أقوى من السيجارة واسحقوها بأرجلكم اليوم, أو بالأحرى بالتدريج (يمكنكم الاستعانة بخبراء في هذا المجال), حتى تنقطعوا نهائيا عن تقبيل قاتلكم المستقبلي الذي سيكتم أنفاسكم ويقتلكم بالموت البطيء الذي قد يبدو أمامه الموت غرقا أرحم بكثير.. وأنا اليوم لم أتحدث إلا عن سرطان الرئة دون أن أذكر الحنجرة أو المعدة أو المثانة أو الفم, والذي يشكل التدخين السبب الرئيسي في أغلب السرطانات التي تصيبها.
رمضان فرصتك للإقلاع عن التدخين, إذا استطعت تجنب التدخين طيلة اليوم فيمكنك ببعض العزيمة والصبر التقليص من جرعة النيكوتين تدريجا ثم الإقلاع بشكل نهائي.. الأمر صعب أعرف ولكنه يعني ببساطة عودتك إلى الحياة, وكلما كان إقلاعك مبكرا كلما كان احتمال السرطان أقل وابتعادك عن دائرة الخطر أكبر..
وداد أزداد Radiologue