كتاب حضارة – الزهرة لكرش
وقفت أمامه لدقائق دون أن أحرك ساكنا لكن شيئا ما في داخلي تحرك، شيء ما جعل الدمعة تنزل من عيني، حدث كل شيء بسرعة، دون أن أخطط لحدوثه. كان كتابا ذاك الذي استوقفني وأثار كل هذه المشاعر بداخلي. كان كتاب الله، إنه المصحف الكريم، لكنه مصحف يرجع لعصور خلت، وقف شاهدا على أناس فرطوا في حضارة كاملة لأنهم أهملوه هناك.
كان مصحفا في متحف من متاحف غرناطة ذاك الذي جمد الدم بعروقي، حين لمحته عيني لم أعد أستطيع حراكا، وقفت إمامه متصلبة لا أنبس بكلمة، لم أعد أحس بمن حولي رغم أنهم كثر. أحسست أنه يتحدث إلي ويخاطبني، يعيد الكلام الذي يقوله لكل زائر عله يجد من يستمع إليه. يحكي حكاية حامله الذي حمله بين يديه ولم يحمله في قلبه. حامله الذي أبهرته دنياه ونسي بوصلته التي بين يديه.
كان حديثنا ذو شجون فلم أستطع أن أبرح مكاني أو أستمتع بجمال ما حولي بعدها. قال لي هذا مصيري بعد أن امتلكني ضعاف النفوس وحولوني إلى زينة للرفوف، هذا مصيري فبعدما كنت أحرك العالم، أصبح العالم يتحرك وأنا واقف مكاني، متفرج كالعاجزين الذين فرطوا فيما أحمله لهم من خير ونعيم. كان حديثا غير الكثير بداخلي حتى أني لم أعد أحس أنني أنا التي كانت منذ لحظات هناك، لم أعد أنا هي، بل واحدة أخرى تحمل بداخلها ألما كبيرا، ألم اعتصر قلبي على حال أمة كانت تقود عندما كان قلبها حاملا لكلام الله، فأضحت تقاد عندما أصبحت أيديها من تحمله.
تحولت بداخلي كثير من المعاني وتغيرت كثير من الأمنيات، رغم كل الألم الذي شعرت به وهو يحدثني إلا أن أملا كبيرا زرع بداخلي. أمل في حدوث المعجزة، فما كان بالأمس يمكن أن يعود إن أعدنا الأمور إلى نصابها، ما كان بالأمس لم يكن حلما بل حقيقة لازالت كل الآثار تشهد على أنها كانت هناك، ومرت من هناك. ما كان بالأمس بناه رجال حملوا ذاك الكتاب في قلوبهم وفهموا معانيه بعقولهم وحولوها إلى واقع عملي بأناملهم، فكانت حضارة أبهرت العالم إلى اليوم بإحسانها ودقتها في كل شيء. أبهرته بحسن أدائها في بناء الإنسان والعمران. ما كان بالأمس فرط فيه أشباه رجال غرتهم الدنيا بزخرفها وشهواتها فنسوا ذاك الكتاب وجعلوه زينة يتفاخرون بها أمام العباد، فأراهم الله إعجازه، وبين لهم أن ما حوته دفتاه لا يتغير، وسنة الله التي سطرت فيه ماضية لا ريب فيها.
فقلت له ودمعتي لم تفارق خدي فهمت الدرس ورب الكعبة ولن أعود إلى سابق عهدي، أتيه بين التفاصيل وأنسى أنك أنت أكبر تفصيلة يجب الاهتمام بها والحديث عنها وغرسها في النفوس وحملها على الأكتاف، فأنت البوصلة الحقيقية للعبور إلى الحضارة والرقي. فواهم من ظن أنه قادر على فعل ذلك دونك، فهمت الدرس جيدا وأرجو أن أستطيع تبليغه للآخرين والعمل معهم على إحياء نفوس أطفأ وهم الهزيمة همتها.
فحي على النهل من أنوار كتاب الله فهما وتنزيلا لتشرق به أنفسنا ويهتدي به أبناؤنا وأهلونا وشبابنا ومجتمعاتنا فيتحقق بنا وعلى أيدينا وعد ربنا “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”.