هموري تكتب: الأسرة المغربية والتحديات المعاصرة
إن ما يعيشه العالم بأسره من تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ساهمت بشكل كبير في تنميط المجتمعات، وإخضاعها لقوانين وقرارات وتوصيات تتنكر في غالبيتها إلى الخصوصيات المحلية، متسترة تارة تحت رداء الكونية، حتى يتسنى تسريبها إلى تلك المجتمعات، والترويج لها والتشجيع على استهلاكها وتبنيها تحت مسميات مختلفة.
وليست مؤسسة الأسرة عموما بمنئى عن ذلك، ومنها الأسرة المغربية، فبالرغم من أنها تقوم على دعائم أساسية ترتكز على البعد الديني صمام أمان لها في مختلف مراحلها منذ بداية التأسيس، إلا أن هذه التحولات أصبحت تتبلور في شكل تحديات حقيقية تهدد النظام الأسري إن لم يتم تداركها وفهمها في أبعادها الجوهرية ومآلاتها الهدامة ، ومن أهم هذه التحديات:
تحدي الكينونة والهوية : حيث أن الإستيلاب الفكري الذي صرنا نعيش تدفقاته يظهر بين الفينة والأخرى دعاوى إلى مراجعات فكرية من قبيل: هل هناك حاجة أصلا إلى أسر تنشأ من قبيل زوج وزوجة وعقد شرعي… وما يترتب عنهما من علائق، ما دامت هناك أنماط وتجمعات أخرى تلبي بعضا مما يجتمع عليه داخل البيت الواحد؟ أو استبدالها بما يصطلح عليه الأسرة الرضائية القائمة على علاقات مفتوحة… وحضانة لأبناء ليسوا من أصلابهم؟ كما أن لاختلاف الثقافات بين الزوجين بعد كثرة الزواج المختلط من الأسباب الرئيسة التي تفقد الأبناء عموما هويتهم الدينية بل والحضارية، نهيك عن الرغبة الجامحة في سيادة ثقافة الحرية بكل تمظهراتها بين أفراد الاسرة وفي مختلف شؤون على حساب ثقافة الالتزام التي تؤطر حدود العلاقات .
تحدي القيم: والتي بدأت تظهر بوادرها من خلال تراجعات عن القيم الأخلاقية التي تسهم في تنمية معاني الرحمة والمودة والتضحية والعطاء والتعاون والإخلاص في العلاقات الأسرية.. مما نتج عنه بعض التصدعات المجتمعية بسبب الانسلاخ عنها كليا أحيانا، أو الدعوة إلى عدم الالتفات إليها وإعطاءها المرتبة الدنيا في سلم الأولويات، وأحيانا تتخذ هذه الدعاوى مسارا جديدا كتغيير منظومة التعاقد الأسري لتتحول من سيادة ثقافة الحق على ثقافة الواجب ، و سيادة المرجعية التعاقدية على المرجعية التراحمية، فأصبح المسكن الأسري بفعل هذه الثنائيات الدخيلة من الثقافة الغربية الاستهلاكية مع الأسف الشديد فضاء للصراع، عوض كونه محضنا للتساكن والاحترام الذي ينتج عنه أهم مقوم للاستقرار الأسري وهو مبدأ “المنفعة للجميع ” .
ومن تجليات هذا التحدي القيمي أيضا، التغيير الوظيفي في أدوار الأسرة وبنيتها، وكذا انشغال الوالدين المستمر بتوفير احتياجات الرعاية المادية لأفراد الأسرة على حساب التربية، وبروز الأسرة النواة مكان الأسرة الممتدة ،و نوعية التفاعل معهم ، والتوترات والاهتزازات التي قد تصل إلى قطع الصلة في العلاقات الأسرية لأتفه الأسباب.
تحدي الهشاشة الإجتماعية والاقتصادية والخدمات: فبالرغم من وجود بعض البرامج الاجتماعية والاقتصادية والخدمات المحدودة في الكم والكيف والوتيرة والفئات، إلا أنه لا زالت مجموعة من الأسر تعيش في عتبة الفقر لعدم كفاية هذه البرامج في التحسين من وضعيتها ،أو بسبب ظهور فئة مجتمعية جديدة وهو ما يطلق عليه “الفقراء الجدد” والتي ساهمت الأزمة الوبائية في نشأتها، أو الزيادة في حدتها بشكل عام أو خاص، حيث ألحقت جائحة كورونا أشد الضرر بشريحة مجتمعية مهمة تشتغل على الأرجح في الخدمات غير الرسمية، والبنايات، والمصانع، والقطاعات غير المهيكلة – وهي القطاعات التي تأثر فيها النشاط الاقتصادي بشدة-.
كما أنه لتسارع وتيرة هبوط النشاط الاقتصادي أثر في تعرض الرأسمال البشري لخطر النقصان الكمي، وضعف التأهيل والتحصيل العلمي بسبب انخفاض مستويات دخل الأسر، والتدريس عن بعد….. مما اضطرت معه بعض الأسر إلى إجراء مفاضلات وتقديم تضحيات قد تضر بالنتائج الصحية والتعليمية لأفراد الأسرة (ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية / ضعف التحصيل العلمي / التدريس عن البعد / الهدر المدرسي/ ضعف مرافق الحماية الاجتماعية ومنها مؤسسات إيواء الطلبة والتلاميذ / غياب البنيات الأساسية للتربية والتعليم خصوصا في المجال القروي …) كل هاته العوامل وغيرها، كان لها الدور الكبير في ارتفاع معدلات البطالة والصراعات و العنف والتفكك الأسريين.. وارتفاع نسبة الطلاق و النساء المعيلات للأسر.
وكان لارتفاع الثقافة الإستهلاكية ومتطلبات العيش، مع انخفاض القدرة الشرائية، وعدم الدعم اللازم،الدور الكبير في تشكيل تهديد حقيقي لتكوين الأسرة من أصلها، أو على الأقل تأخير إنشاءها ،مما نتج عنه تأخر سن الزواج ومنه تراجع نسبة الإنجاب ، أو العنوسة كخيار ونمط عيش اختاره البعض وما يتولد عنه من ضغوطات وانحرافات.
إقرأ أيضا: العالم يحتفل باليوم الدولي للأسر في موضوع “الأسر والتحضر” |
تحدي الترفيه والإعلام: مع اتساع نطاق الثورة التكنولوجية والتطور السريع لوسائل الاتصال والتواصل والنظم المعلوماتية، فتح الباب على مصراعيه لتغلغل تأثيرات الثقافات الأخرى في واقع مجتمعنا المغربي بشكل ملفت، ومما لاشك فيه أن حظ الأسرة اليوم في ذلك التغلغل كبير بفعل الظواهر التي تكتنف علاقة الإعلام بالأسرة، إذ أصبح الإعلام بمختلف أشكاله يشكل منافسا للأسرة في وظائفها سواء الثقافية،أو التربوية، أو دورها في تماسك النسيج الاجتماعي وصيانة الثقافة والهوية الوطنيتين، ليس فقط من حيث المعلومات التي توفرها هذه الوسائل لمستخدميها فحسب، بل أيضا من حيث القيم الثقافية التي تتضمنها رسائلها والتي تتعارض، في الأغلب، مع القيم الثقافية والمعايير السلوكية المضرة والمخلة بالتوازن الأسري وبالتطور الاجتماعي السليم داخل المجتمع، بل ويبالغ الإعلام في أغلب برامجه على سياسة الصراع… والجذب… والربح، وتسويق الترفيه كثقافة ضرورية في ظل التمظهرات المجتمعية، لينتج أسرا قد لا تستغني عن استهلاك أنواع الفنون والرياضات، وكل برامج الترفيه ولو كانت تافهة في عمومها، بل وتعتبرها حقا مشروعا تدافع عنها بقوة ،وتسعى إلى توفير ما تتطلبه من حاجات مادية للإنفاق عليها مهما كانت أوجه كسبه، لكنها لا تهتم ببدائل عن هذا الحق مهما كانت نافعة، بل وتهاجم أحيانا أخرى من بنتقدها أو يربو بديلا عنها .
ومن تجليات هذا التحدي، توجه الكثير من وسائل الاعلام للشباب بشكل مباشر أو غبر مباشر ببرامج تنمط مجال القدوة لديهم، وتنمي قيم الاستهلاك التظاهري الترفي دون الإلتفات إلى ملائمتها مع القيم المجتمعية ، بل وتخلق حاجات وهمية لدى هؤلاء الشباب قد يؤدي اللهاث وراءها إلى الانحراف.
ومن جهة أخرى فإن الفجوة بين الآباء وأبنائهم في مهارات استخدام هذه الوسائل، وما يتبعها من فجوة في الآفاق المعرفية تؤثر تأثيرا سلبيا على سلطة الوالدين التقليدية، وتؤدي إلى اهتزاز صورتهما كمصدر رئيس وأولي للمعرفة .
وختاما، فإن الوعي بحجم التحديات التي تواجه الأسرة المغربية، يحتاج إلى بلورة مشاريع إنمائية تضع استقراء الأسرة في سلم الأولويات، ومنها الدعوة إلى ” بلورة إستراتيجية وطنية للنهوض بالتربية الأسرية” يسهم فيها مختلف أجهزة القطاعات الحكومية ، وعلى رأسه المؤسسات التعليمية والثقافية والدينية والإعلامية وجمعيات المجتمع المدني .
أمينة هموري/ مسؤولة التواصل بمركز إشعاع للدراسات الأسرية