مشروعية العمل والكسب في الإسلام
لقد خلق الله الإنسانَ ويسَّر له سبيل العلم والكسبِ، وباكتسابه للرِّزق وبإنفاقه له على نفسه وأهله يحافِظ على العنصر الماديِّ، وفي أثناء طلبه للرِّزق عليه أن يراقبَ الله فيكتسبَ قُوتَه من الطُّرق التي شرَعها الله، ويتنحَّى عن الطُّرق التي تُغضب الله، وبذلك يحافظ على نقاوة العنصر الرُّوحي؛ قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، ومنحه العقل وكرَّمه، وفضَّله على سائر المخلوقات: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
والعمل والإنتاج هما وسيلةُ العمل المشروع، وقد أمر الله بهما، وحض عليهما، ورفع من شأنهما، وامتنَّ على عباده بأنْ ذلَّل لهم الأرضَ ويسَّر لهم العملَ فيها؛ فقال – سبحانه -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
ولقد جاءت التشريعات الإسلاميّة للحث على العمل، واستنكار الكسل والتقاعس والجلوس وانتظار الصدقات، أو ما يتفضّل به الآخرون، كما نهى الإسلام عن البطالة واعتياد الفقر وعدم الأخذ بالأسباب؛ فهو سببٌ من أسباب الذلّ والهوان، ومرضٌ اجتماعيٌّ معدٍ، وضرره يعود على المجتمع كاملاً ويُفسد المصلحة العامّة له.
وأمر الإنسان بعد أن مَنَحَه العقل أن يجمع رزقَه باستعمال عقلِه، وبما وسِعه من حيلة، وإعمالِ فكرٍ، وتدبير رأي، وجعلَ السعيَ والعمل فريضةً مفروضة بعد الصلاة؛ فقال – سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
ومهَّد الخالق للإنسان طرُقَ الكسب، وقد ذكر القرآن الكريم منها أنواعًا متعدِّدة، أوَّلُها طريق التجارة، وقد مَنَّ الله على قُريش فيسَّر لها رحلتين: إحداهما إلى الشَّام، والأخرى إلى اليمن؛ لكي يأتلفوا ويتعاونوا ويجدوا الأمانَ من الفقر، والإطعامَ من الجوع؛ فقال – سبحانه -: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 – 4].
وأعلى منزلةَ التُّجار الصادقين في تعامُلهم وعهودهم، والأمناء على أموال العباد؛ فقال – عليه الصلاة والسلام -: (التَّاجر الصَّدوقُ يُحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء).
وثانيها طريقُ الزراعة، ولقد لفت الله أنظارَ الإنسان إلى إعداد الأرض للزِّراعة؛ فقال – سبحانه -: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 24 – 32]، وجعل الرَّسولُ الزَّارع متاجرًا مع الله؛ فعليه أنْ يحرُثَ الأرض، وعلى الله أن يُخرج النبات، وأن يُخرج الثَّمَرة؛ قال -تعالى-: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ [الواقعة: 63، 64]، وضاعَف له الأجر والثوابَ؛ قال – عليه الصلاة والسلام -: (ما مِنْ مسلمٍ يغرِس غرسًا، أو يزرعُ زرعًا، فيأكلُ منه إنسانٌ أو حيوان أو دابَّة، إلا كان له صدقةٌ).
وثالثها طريق الصناعة، والصِّناعة أقوى العُمُد التي تقوم عليها الحضارات، وفي القرآن إشارةٌ إلى جملةٍ من الصناعات؛ فيه إشارةٌ إلى صناعة الحديد: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25]، وفيه إشارة إلى صناعة الملابس فيما حكاه القرآنُ عن سيدنا داود: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]، وقال: ﴿ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا ﴾ [الأعراف: 26].
وسلّط الإسلام الضوء على أهمية الإتقان في العمل، حيث وجّه المسلمين إلى أداء الأعمال على أتمّ وجهٍ، وسمّى ذلك إحساناً، وقد كتبه الله -سبحانه- على كل شيءٍ، فقد ثبت في صحيح مسلم عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ). فلم يُفرّق الإسلام بين إحسان العبادة والعمل الدنيوي الذي يستحق عليه الأجر والثواب، كما كفل الإسلام حقوق العامل مقابل أدائه عمله المكلف به بصورةٍ حسنةٍ، فنهى عن التبخيس والتقليل من قيمة المجهود.
ورفع الرسول صلى الله عليه وسلم من منزلة العمل، وجعَله بمنزلة الجهاد في سبيل الله؛ فقد روِيَ: أنَّ الصحابة كانوا جالسين يومًا ومرَّ عليهم رجلٌ مفتولُ العضلات، ذو جَلَد، فقالَ رجل للنبي وهو يشير إلى الرجُل: لو كان هذا في سبيل الله؟ أي: لو استغلَّ هذا الرجُل قوَّته في الجهاد في سبيل الله؛ فقال – عليه الصلاة والسلام -: (لو كان خرج يسعى على نفسِه يكفها المسألة، ويعفُّها عن الناس، فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على أبوين ضعيفينِ، فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا، فهو في سبيلِ الله، وإنْ كان خرج يسعى تفاخرًا وتكاثرًا، فهو في سبيل الشَّيطان)
وعُرف عن الأنبياء انه لم تَمنعْهم النَّبوة عن العمل واكتساب الرزق؛ فنوحٌ – عليه السلام – كان نجارًا، وداودُ كان صانعًا للدروع، وكان آدمُ حرَّاثًا، ولقمان كان خيَّاطًا، وطالوت دبَّاغًا وقيل: سقَّاءً
ولقد نظَّم الإسلام طرق الإنفاق والانتفاع بالأموال المكتسبة، وحضَّ على المحافظة عليها؛ فحرَّم التبذير والإسراف، كما حرَّم الشحَّ والتقطير؛ قال – تعالى -: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29] ومدَح عباده المؤمنين، وقال في وصفهم: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، فهم ليسوا بمبذِّرين، فينفقوا فوق حاجتهم، ولا بخلاءَ على أهليهم فيقصِّروا في حقِّهم فلا يكفوهم، وقد روِيَ عن النبي أنه قال: (مِنْ فقه الرجُل رفقُه في معيشتِه))، وقال أيضًا: ((ما عال مَنِ اقتصد).
وحرم الاسلام كسب المال من الطرق غير المشروعة كالربا، والرشوة، وأكل أموال اليتامى ظلما، والقمار، والخمر والميسر، والتطفيف في الكيل، وعن طريق المسألة والاستجداء، وأكد على أن يكون رزقنا حلالا طيبا قال – سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].
الإصلاح