تفاعلا مع حدث الطفل ريان، الدكتور شبار يكتب: القيم الكامنة في الإنسان.. كيف نبعثها؟
إن القيم باعتبارها مكونا من مكونات نظام السنن الضابطة لحركة وحياة الانسان، لا ترتبط ضرورة بأحداث كبرى أو صغرى، أو جهات نافذة أو غير نافذة؛ ذلك لأن قيمتها ذاتية وليست خارجية، ونفاستها فيها وليست مستعارة. ولهذا فأي حدث تعلقت به، أو بالأحرى تعلق بها، رفعته وجعلت له من القبول والتداول بقدر تعلقه بها. ولأن القيم نسق وشبكة متكاملة، فإنها تجعل ما يتعلق بها متعلقا بالشبكة كلها أو معظمها؛ ينطلق من نقطة ما ليسري في كل أوصالها، مثل حركة الضوء أو النور تماما؛ والذي يضاعف هذا المعنى الاعتباري في القيم، أنها الأصل الفطري المشترك والممتد في كينونة الانسان. فهي حينما تتصدر تفكيره وسلوكه يرتقي بها، وحينما تتراجع الى الخلف وتتحكمه النزوات والشهوات ينحط بذلك ولو توهم أنه راق.
وما نهوض الحضارات الكبرى إلا لاشتغال حيز مقدر من القيم العلمية أو العملية أو الدينية.. فيها، لكن الاشتغال الحق والتحضر الحق، يبقى هو القادر على الجمع بينها كلها ما أمكنه ذلك. فالقيم المهملة، باعتبارها من نظام السنن في الحياة، لا تلبث تطالب بحقها في الوجود، وقد تؤدي الحضارة ثمن ذلك الإهمال بالانهيار الجزئي أو الكامل. وهذا النظام هو الذي حكم الحضارات التي قامت ثم دالت بما فيها حضارة المسلمين؛ ولهذا فكثير من النقاد المؤرخين والفلاسفة والمفكرين، انتقدوا وينتقدون نموذج الحضارة السائد اليوم، وسوء المآل الذي ينتظره، من هذا المدخل بالذات؛ أي رد الاعتبار لما تم إهماله من قيم ضرورية للوجود الإنساني مثل: العدل والانصاف والعقل والكرامة والحرية والسلم والفضائل.. وغيرها، وليس غرضنا التفصيل هنا.
غرضنا أن نربط ما تقدم بحدث الطفل ريان، وقد اختارته العناية الإلهية ليكون في جوار ربه، وكيف أن هذا الحدث بعث من تحت الأنقاض، في المسلمين وغيرهم، قيم التضامن والتكافل والمحبة والتراحم والأخوة والتعاون والمواساة..، وكل ما طمرته صلافة العولمة في وجهها الأسواقي الاستهلاكي التنميطي للحياة، وتعليبها للإنسان ضمن “قيم” صناعية، هو سجين ومستعبد في أسوار عُلبِها، صغيرة أو كبيرة كانت، وهي توهمه أنه حر طليق كامل الحرية والإرادة. علما أنه لا كمال في الحرية والإرادة بالذات، لهذا الكائن العاجز عن تأمل ذاته والابصار في نفسه، فكيف بأسرار ونظام الوجود.
إنه حينما تنبعث قيمة فطرية في الانسان، فإنها تطال كل إنسان، لأنه حامل لها بالقوة وتحتاج منه الى أن يُخرجها الى الفعل. ولهذا مهما تضخمت وانتفخت بعض الأحداث الزائفة، وتمالأت على الدعاية لها وسائل الإعلام في العالم أو بعضه، يمكن أن يحجبها ويتجاوزها، بل ويسفهها، حادث بسيط أو أعزل مثل حادث الطفل ريان الذي سخره الله لإحياء هذا الموات في المسلمين خصوصا وفي الناس عموما؛ وذلك حينما ارتبط بالشريان القيمي وبباقي الشبكة ليمتد في الجميع. ولو وقع هذا الحادث في مكان ما من العالم، لكان له نفس التداعي والتأثير؛ فالقيم الإنسانية تخدمها الأديان ولا تعارضها، وينبغي أن تخدمها النظم الحضارية كذلك. والخيط الفاصل بين التقدم والتخلف لم يبق الرهان فيه على المِلكية والحيازة في عالم الأشياء، بقدر ما أضحى يتجه وينتصر للقيم المعنوية، التي تحفظ كرامة الانسان وتكفل حقوقه وحرياته، وتعطي لحياته معنى وغاية، ولوجوده مبررا مقنعا.
فهل ننتظر حوادث من هذا القبيل، مثل الساعات والأجراس المنبهة، كي تنبعث فينا قيم “الانسان”، أم يمكن لتضافر الأعمال والجهود، الفكرية والفلسفية والدينية والاجتماعية.. أن تخدمها وتنتصر لها، استردادا لقيمة الانسان الذي تمثله كثير من الشعوب التي سُلبت حقوقها وحرياتها، بل أحلامها وأذواقها كذلك. إن درجة تأثر الناس وتعلقهم بهذا الحادث، كما ارتبط ببراءة وطفولة ريان، وبمحنته في البئر لأيام، وهو معوض عنها ان شاء الله عند ربه؛ هو تعلق كذلك بالقيم المفقودة التي نفتقر اليها، وإن كانت في الأصل كامنة فينا تحتاج الى سبب ومبرر لانبعاثها. نرجو أن يكون درس هذا الحادث بليغا للجميع، فالسنن ومنها هذه القيم، لا تحابي أحدا.
ولا ننسى أخيرا التنويه والاعتزاز الكبير، بجهود الخدمة والتضامن التي قدم فيها المغرب مثالا للعالم، بدء من فرق التدخل المختلفة، والمتطوعين ذوي الخبرة والتجربة، وتضامن اهل القرية بالإطعام، وأكف الضراعة الممدودة الى اللطيف الخبير بعباده، ومتابعة ذلك كله وختمه بالتعزية الملكية المباشرة لوالدي الفقيد، نسأل الله لهما الصبر والاحتساب. والله غالب على أمره..
بقلم الدكتور سعيد شبار