حوار هادئ مع الأستاذ امحمد جبرون
تميزت الدورة السادسة لملتقى الباحثين في العلوم الشرعية الذي اعتاد قسم الإنتاج العلمي والفكري لحركة التوحيد والإصلاح تنظيمه بورقة قدمها الصديق الدكتور امحمد جبرون تناول فيها قضية العقوبات في التشريع الجنائي الإسلامي. وقد سبق له أن أشار إلى نظرته هاته في كتابه مفهوم الدولة الإسلامية وبسطها في كتاب سيصدر له قريبا. وملخص قناعاته أن العقوبات الجسدية التي أقرها الإسلام سواء كانت حدودا أو قصاصا، هي تشريعات معروفة تاريخيا قبل الإسلام، وأن الإسلام أقرها في تلك الفترة تماشيا مع العرف السائد بالمجتمع القبلي، وأن المقصد الأسمى للإسلام هو تحقيق العدل. ومن ثَمَّ، فهو يدعو إلى وضع تشريعات تنسجم ومقتضيات العصر، وتتوافق مع ثقافة حقوق الإنسان. يقول د. جبرون في كتابه “مفهوم الدولة الإسلامية” : “إن الذي يقع أمامنا في موضوع العدل الذي تؤكده النصوص القرآنية وتجربة الرسول التاريخية وتتعاضد على إقامته وليس التفصيلات التشريعية التي يقع معظمها وراءنا والتي تؤكد كل الدلائل من داخلها أو في محيطها (أسباب النزول والورود) طابعها التاريخي والثقافي معلوم أن النص (القرآن والسنة) يفقد الكثير من قوته وسلطته إذا ثبتت صلة بتاريخ مضى” (صفحة 108). ومن وجهة نظري فإنَّ هذه الدعوة تكتسي خطورة وجرأة كبيرتين، لأننا إذا سلمنا بهذا فيمكننا أن نبني عليها أمورا أخرى كما سيأتي.
وأول ملاحظة تراءت لي – وأنا أتابع عرض ورقته- حديثُه عن القرآن السياسي؛ وأنا أتساءل: هل هناك قرآن سياسي، وقرآن اقتصادي، وقرآن أخلاقي، وقرآن عقائدي؟!! إن هذا الوصف -في اعتقادي- مجانبٌ للصواب، ويَحُطُّ من مكانة القرآن وقدسيته. فالقرآن هو وحي الله لرسوله وكلمته التي إرتضاها للبشرية إلى قيام الساعة؛ وهو كتاب هداية للخلق كما قال تعالى “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم” (الإسراء) وقال جلّ جلاله : “قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (المائدة).. نعم .. قد نتحدث عن أحكام الدولة في القرآن، وعن أحكام الأسرة والأخلاق، وشتان بين التعبيرين.
أما الملاحظة الثانية، فهي أن المنهج الذي يعتمده الدكتور جبرون يقوم على اعتبار نظام العقوبات في الإسلام مسايرا لما كان معهودا في جزيرة العرب قبل الإسلام؛ ومن ثَمَّ، فالمجال مفتوح اليوم لاعتماد تجريحات مخالفة تنسجم مع واقعنا المعاصر. ولو سلمنا لجبرون بهذه الفرضية فما المانع إذن من إسقاطها على نظام الإرث وعلى تحريم الربا؟ بل إنه يمكن إسقاطها حتى على العبادات!.. فصلاة الصبح فرضت على المسلمين مع طلوع الفجر لأنّ نظامهم الحياتي كان يقوم على النوم بعد العشاء والإستيقاظ فجرا ! لكنَّ حياتنا اليوم تعقدت إذ أمست الإضاءةُ تَعُمُّ مُدُنَنَا وقُرانا وتُحَوِّلُ ليلَنا إلى حَرَكَةٍ دائمة ! أفلا تكون صلاةُ الصبح عند الثامنة أو التاسعة صباحا أوفق؟
إنَّ أطروحة د. جبرون مردودٌ عليها من عدة أوجه :
1أن الذي وضع هذه التشريعات هو الله سبحانه وتعالى العليم الحكيم، فهو يعلم ما كان وما سيكون، والله لن يشرع للناس إلا ما فيه مصلحتهم؛ فهو القائل : “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون” (البقرة). ولننظر نهاية آية حدِّ الزّنا حيث يقول الله تعالى : “ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تومنون بالله وباليوم الآخر” (النور). ويقول في حَدِّ السرقة : “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله” (المائدة). فلماذا يربط الله تعالى إقامةَ حَدِّ الزِّنا بالإيمان بالله واليوم الآخر؟ ويعتبر حدَّ السرقة عقوبة من الله إذا كان الأمر مجرَّدَ مسايرَةٍ لواقع تاريخي؟!
2 لقد جاء القرآن الكريم وألغى الكثير مما كان متعارفا عليه في واقع العرب، ومنها على سبيل المثال حَصْرُه أشكالَ الزواج التي كانت معروفةً في الجاهلية، ولَم يُقِرَّ إلاَّ شَكْلاً واحِدا هو الزواج الشَّرعي المعروف اليوم عند المسلمين. فلماذا لم يساير واقعهم وأعرافهم بل أبْطَلَها كما أبطل رِبا الجاهلية وأبطل الثأر ووأد البنات؟
3 ألم تكن العقوبات الحبسية معروفة من قبل؟ ألم يُحَدِّثْنا كتابُ الله عن سجن يوسف عليه السلام والحكم بسجن الزانية المحصنة في بيتها حتى الوفاة؟ ومن ثَمَّ، لو لم تكن هذه العقوبات مقصودة لَسايَرَها القرآن ولَوَضَعَ لنا عقوبات سجنية أو غيرها..
4وصف د. جبرون هذه العقوبات بالقسوة، وأنها لا تتوافق مع ثقافة حقوق الإنسان. وهذا الإدعاء مردود عليه لاعتبارات عدة منها :
- أن المقصد الأساس من هذه العقوبات هو منع وقوع الجريمة ابتداءا؛ فهي عقوبات زجرية ردعية. فإنَّ من يعلم أنه إذا ما ارتكب جرما ترتب عليه عقوبة حدية سوف ينفذ فيه، فإنه سيمتنع عن اقترافه.
- أن المنهج الإسلامي يعتمد أساسا على المقاربة التربوية الهادفة إلى بناء الإنسان الصالح المصلح. ومن ثَمَّ، فالعقوبات تنفذ في من لم تنفع معه التربية والتوجيه.
- أنَّ جزءا من هذه العقوبات يرتبط بالجهر بالفاحشة. وقد حذَّر القرآن من إشاعتها فقال “إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة”(النور). وذلك لما في الجهر بها من جرأة على القيم والأخلاق والآداب العامة.
- معلوم أن العقوبات الجنائية في الإسلام تهدف إلى المحافظة على الضروريات الخمس للدين كما هو مقرر. وهي مقاصِدُ جاءت الشريعَةُ لِحِفْظِها من جِهة الوجود والعدم.
- لقد كثرت اليوم الدعاوى المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام، ومع ذلك مازالت دول غريبة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ترفض هذه المطالب وتطبق عقوبة الإعدام في صور بشعة كالقتل بالصعق الكهربائي وغرف الغاز !!
- إننا نعيش في عالم انتشرت فيه الجريمة وتعددت صورها، وأصبحت حياة الناس وأعراضهم وأموالهم عرضةً للقتل والإغتصاب والنهب. أفلا يجب أن تكون العقوبات زجرية رادعة لتحقق الأمن العام؟ ثُمَّ إن التشريع الإسلامي قد أحاط هذه العقوبات بعدة قيود منها الحديث/القاعدة الذي أخرجه الترمذي وغيرُه بألفاظ مختلفة: “إدرؤوا الحدودَ بالشبهات”، والحديث/القاعدة الذي رواه البيهقي وجاء بعضه في الصحيحين: “البينة على المُدَّعي واليمينُ على من أنكر”، وكذا القاعدة المستخرجة مما رواه الترمذي : “ولأن يُخْطِئَ القاضي في العَفْو خيرُ من أن يخطئ في العقوبة”، وغيرها. واليوم قد تطورت وسائل الإثبات والتحقيق بما يضمن المحاكمة العادلة، قال تعالى : “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى” (المائدة).
محمد عليلو