عندما تشهد علينا الشهادات في حق الرسول (ص) – الحبيب عكي
رسول الله (ص) لا يحتاج في الحقيقة إلى شهادة بعد شهادات الله عز وجل في حقه، في قرآنه الكريم، حيث جاءت هذه الشهادات متواترة وكلها تنزهه (ص) عن كل ادعاءات المشركين وافتراءات المسيئين، وتعطي حقيقته القرآنية الربانية الرائعة، التي يعتقد بها كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فقال تعالى: “محمد رسول الله”، وقال أيضا: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، وقال: “وإنك لعلى خلق عظيم”، إلى أن قال: “إنا أرسلناك مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا”، وقائلا:” لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ” التوبة/128، إذن، فهو الرسول (ص).. وهو منكم حريص عليكم.. وهو القدوة الحسنة.. وهو الداعية المجاهد.. وهو الرحمة المهداة.. والنعمة المسداة.. من بعث رحمة للعالمين ليتمم مكارم الأخلاق.
شهادة المشركين أنفسهم في حقه (ص) وفي حق ما جاء به من الرسالة، حيث حدث أن عبد الله بن رواحة رسول رسول الله لأخذ خراج خيبر من اليهود وفق المعاهدة التي نصت بينهم على النصف، فلما رفض ما رشوه به من حلي نسائهم ليخفف عنهم قال لهم: “يا معشر اليهود جئتكم من عند أحبّ الخلق إليّ، ولأنتم عندي أبغض خلق الله إليّ، ومع ذلك لا يحملني هذا أن أحيف عليكم ولا أزيدكم، أما الذي عرضتم عليّ من رشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها، فما ملك اليهود إلا أن قالوا: “بهذا قامت السماوات والأرض وبهذا غلبتمونا.”
وهذا الوليد بن المغيرة (أبو شمس وريحانة قريش) قال لقومه ما تقولون في محمد فقالوا: ” نقول كاهن، فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكُهَّان، فقالوا: نقول مجنون، فقال: ما هو بالمجنون، لقد رأينا الجُنون وعرفناه، فقالوا: نقول شاعر، فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشِّعر بِرَجزِهِ وقَريضهِ، ومَقبوضهِ ومَبسوطهِ، فما هو بالشعر، قالوا: إذن نقول ساحر، قال: ما هو بساحر، قد رأينا السَّحرةَ وسِحرهم، ما هو بِنَفثهِ ولا عُقَدهِ، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال:” والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً؛ ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن؛ والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لَمُثمِر، وإنَّ أسفَلهُ لَمُغدِق، وإنّه يعلو ولا يُعلى عليه”. ثم انصرف..
وشهادة الصحابة رضوان الله عليهم فقد ورد بعضها وأقواها في ترافع الصحابي القائد جعفر بن أبي طالب أمام “النجاشي” ملك الحبشة عند الهجرة الأولى فقال: ” أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه… فدعانا إلى الله، لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن واَباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان…وقد أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة ونؤتى الزكاة ونصوم رمضان…فصدقناه واَمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فحللنا ما أحل لنا وحرمنا ما حرم علينا، فما كان من قومنا أيها الملك إلا أن عدوا علينا، فعذبونا أشد العذاب ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الأوثان… فلما ظلمونا وقهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا إلا نظلم عندك ” فكان لهم ذلك.
غير أن ما أثار انتباهي اليوم ،هو شهادة زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، شهادة أدلت بها في حقه (ص) في أحلك الظروف الدعوية وإرهاصات بعثته (ص)، لو تأملناها لأدركنا حقيقة رسول الله (ص) ولغيرت الكثير من فهمنا القاصر لهذا الدين الإسلامي الحنيف، خاصة على ضوء الواقع المتردي والذي يتشبث فيه الناس ببعض النتف ويدعون أن ذلك كل ما عليهم، وما قصروا في الالتزام بالإسلام في شيء. قالت خديجة للرسول (ص) وهي تواسيه وقد جاءها جزعا مما بدأه من إرهاص الناموس عند غار حراء: ” إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، والله، لن يخزيك الله أبدا” باقة إسلامية رفيعة ينجي صاحبها من الخزي والخذلان والمهانة التي قد تصيبه أو تدب في مجتمعه وأمته.
وما أكثر “الباكات” الإسلامية جماعية أو حتى فردية في تكاليفها جماعية في أجرها، “Pack ” دخول الجنة: “أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام” رواه الترمذي”. “Pack ” لزوم رحاب الله حتى عند الضعف والفتور، حيث قال الرسول (ص) لمن جاء يشكوه ثقل تكاليف الإسلام عليه فقال له: “لا يزال لسانك رطبا بذكر الله” أ خرجه أحمد. وفي القرآن أيضا “Pack ” الإيمان مثلا: ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” الحجرات/15. وقوله تعالى: “إنما المؤمنون الذين إذا أصابتهم مصيبة، قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون..” البقرة/156، وقوله تعالى: “إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ” الأنفال/2؟.
والآن نعود إلى “باك” أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، خاصة في ضوء ما أصاب الأمة من الخزي والخذلان والضعف والهوان، وفي كل مرة تتساءل عن الأسباب والمسببات، وعن روافع النهوض، والحال أن الأمر أوضح من واضح، فأين هي من معالم هذا الوضوح الفاضح؟
1- إنك لتصل الرحم: والرحم معلقة بعرش الرحمان، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، فأين نحن من الرحم ومنا من يقاطعها، ومنا من يتضايق بها، ويتمنى لو لم يزره رحمه، أو يعجلوا بمغادرتهم عند الزيارة، أو يكتفوا بالهاتف بدل الزيارة المباشرة، بل ربما حتى الهاتف يبلغه هموما هو في غنى عنها ويكلفه تكاليف يستثقلها ويتهرب من أدائها لا لشيء إلا لأنها من الرحم؟؟.
2- وتصدق الحديث: وما أدراك ما صدق الحديث، وما أدراك كيف كان له صفة ملازمة من صغره إلى كبره، حتى لقبه قومه (ص) بالصادق الأمين، أيما شيء حدثهم عنه صدقوه إلا في أمر الوحي والرسالة، وها نحن اليوم ندرك أهمية صدق الحديث في زمن الكذب والإشاعة، وكيف أن الكثيرين لا يصدقون غيرهم من الأقرباء أو الغرباء أو حتى المسؤولين عنهم، ما لم يترجموا أقوالهم إلى أفعال وأفعال طيبة، ولا يزال مسلسل الوهم والافتراء في زمن السياسوية والوباء يكبد الأمة ما يكبدها، لذا علينا بالتثبت قبل الحديث بما نسمع، وأن نتثبت من مصدر الخبر وصفاته: “ماذا.. من؟.. أين؟.. متى؟.. كم .. وكيف”؟.
3- وتحمل الكل: تعين صاحب الدابة على حمله، في وقت كانت الدابة وسيلة نقل الجميع، وهي كناية على المساعدة العامة في التنقل أو في غيره من مكابدات الناس عامة والكلالة الضعفاء منهم خاصة، كأن تساعد محتاجا معدوما على سفره، بحجز تذكرة له، أو إعارته سيارتك أو نقله على مثنها إذا كان بالإمكان، أين نحن من هذا وشعارنا اليوم :” كل شيء إلا السيارة فهي كالمرأة من العار أن تعار”.
4- وتكسب المعدوم: والقرآن والسنة مليئين بهذا إلى درجة يؤكدان فيها أن هذا هو منهج الإسلام في التضامن الاجتماعي:” حق السائل و المحروم”، “إنما الصدقات للفقراء والمساكين”، “حتى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” ومنا من لازال لا يريد أن يعود في ماله وراتبه الشهري إلا ذاته وأهله على أكبر تقدير، رغبة فيما يرغب أو خشية مما يخشى، والقرآن يقول: ” خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ” التوبة /103؟.
5- وتقري الضيف: يعني تمكنه من واحب الضيافة أي القراء، ورحم الله زمن كرم الضيافة و” التيساع في الخاطر ماشي في الخيمة”، شيمة العرب والأمازيغ الأولى، بذبح الجديان والخرفان بل حتى الجمال، واليوم أغلقنا بيوتنا وأصبح يسري على الضيافة ما أصبح يسري على الرحم، ولكل شعاراته الأنانية أقبحها:” واش عندي فندق”؟، أو” اللي جاء يمشي لدار الضيافة” يعني دار الجماعة أو عابر السبيل. فأين هي هذه الدار؟ ومن ينفق عليها أو كم ننفق نحن عليها؟
6- وتعين على النوائب: ولا زال كل الناس بفئاتهم في مختلف النوائب، نوائب الفقراء المعسرين ونوائب الأغنياء الميسورين، ولا خلاص لهم إلا بهدي النبي (ص) في التعاون والتضامن وتفقد الفقراء والمحتاجين، ماديا ونفسانيا بدل السائد بينهم من التحاقد والتطاحن، لدى الأغنياء ما قد يحتاجه الفقراء من الكرم وخشاش الأرض، ولدى الفقراء ما قد يحتاجه الأغنياء من النبل والبساطة وراحة البال. فلماذا كل هذا التباعد بينهم والاستعلاء ؟
هذا هو رسول الله (ص) الرحمة المهداة والنعمة المسداة، وهذه هي رسالته، يصل الرحم، ويصدق الحديث، ويحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر، فيا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أدبر، أقبل وأدبر و أدبر وأقبل، فكل القوم في سفينة، أصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وأراد القوم أسفلها خرقها حرية وأنانية، فإن هم منعهم القوم أعلاها نجوا ونجوا جميعا، وإن هم تركوهم هلكوا وهلكوا جميعا. أقبل وأدبر و أدبر وأقبل، فهؤلاء علماء الغرب وحكماؤه أيضا يدلون بشهاداتهم في حق الرسول (ص) فيقول “برناردشو” الإنجليزي:” “إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، لو تولى أمر العالم اليوم، لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها”؟. و قال الفيلسوف الفرنسي “لامارتين”: “النبي محمد علية الصلاة والسلام، هو النبي الفيلسوف المحارب الخطيب المشرع، قاهر الأهواء وبالنظر إلى كل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل هل هناك من هو أعظم من النبي محمد عليه الصلاة والسلام”؟، وقال “تولستوي الروسي”:” يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.
شهادات كلها قمة في السمو والحقيقة والإنصاف، لا تكاد تظهر أمامها كل إساءات المسيئين، ولكن -مع الأسف- تثيرنا الإساءة وقد كفاها الله إياه “إنا كفيناك المستهزئين”، ولا يحركنا الإنصاف، أو إلى كم يحركنا حتى نلزم بحبوحة دينه وروعة رسالته وسمو خلقه، فلا زال الاستلاب كل يوم يسلبنا وهو لا ظهرا يبقي ولا أرضا يقطع، وأنى له؟، قال عمر رضي الله عنه: “نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله “رواه ابن حبان.
فاللهم ارزقنا الأمن والإيمان والسلامة والإسلام واحفظنا من الخزي والمهانة ومن الذل والهوان…آمين والحمد لله رب العالمين.