الوقت رأس المال ووعاء العمل

إخواني، أختي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

من الأمور التي توافق فيها صحيح العقل وصريح النقل قضية الوقت وأهميته وحسن استثماره وحسن إدارته، والكيس العاقل الذكي الفطن هو الذي يعرف قدر اليوم والليلة بل ويعرف قدر الساعة وقدر الدقيقة، لأن الوقت هو رأسماله ويجب أن يكون كذلك، ولأن الوقت هو وعاء عمله، فمهما عاش الإنسان فإنه في النهاية ليس إلا عدد من الساعات وعدد من الأيام والليالي والشهور والسنوات، وهذه الأيام وهذه الليالي والشهور وهذه السنوات هي وعاء عمله، فإن كان صالحا فوا فوزاه وإن كان غير ذلك والعياذ بالله، وما  يدل على أهمية الوقت أن الله عز وجل أقسم به في أكثر من موضع في القران الكريم فقد أقسم بالعصر والليل والنهار وبالصبح والفجر، وكلها مفردات تدخل في حقل الوقت وتدل على أهميته، وما أقسم الله عز وجل إلا بأمر ذي أهمية، ومن الإشارات الذكية في الوقت وحسن استثماره وإدارته أن الأمر في القران الكريم بقوله تعالى سارعوا وسابقوا وفي السنة ببادروا يدل على أن العمر في انقضاء وأن العمر يجب أن يقضى في كل ما يرضي الله عز وجل، ولذلك المؤمن الكيس الفطن هو الذي يلتفت إلى ساعاته ويلتفت إلى دقائقه فلا تمر عليه سدى، لأن العمر ما هو إلا هذه السنوات والشهور وكلما انقضت انقضى منه شيء، ومن حكم عمر بن العزيز رحمه الله قوله : (إن الليل والنهار يعملان فيك أيها الإنسان فاعمل فيهما)، وعندما نتمعن في العملين سنجد أن الدهر أو الزمن أو العمر والليل والنهار يعملان في الإنسان فيحيلانه إلى ضعف وإلى عجز وإلى فترات من العمر لا يقدر فيها على ما كان يقدر عليه وهو في شبابه، ولذلك فهو مطالب أن يستثمر هذه الأوقات وأن يحسن استغلالها دون أن تمر عليه لأن العمر كما يقال لا يعود مرة أخرى ولأن عقارب الساعة لا تعود للوراء.

ومن فوئد ابن القيم قوله (إضاعة الوقت أشد من الموت لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الاخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها)، وهذا حس رفيع من ابن القيم رحمه الله أنه يعلم أن إضاعة الوقت أشد من الموت، وهنا نستحضر الغرب حيث ان الفلسفة الغربية تنظر إلى الوقت على أنه من ذهب لأنه ينسجم مع رأيتها وفلسفتها ومدنيتها حتى لا نقول حضارتها، في حين أننا في الفلسفة الإسلامية نعتبر أن الوقت هو الحياة ولذلك عندما نعرفه بأنه الحياة استطاع ابن القيم ان يبدع تعريفا آخر وهو أن إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن اضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الاخرة، ومن فوائده أيضا : (العارف ابن وقته فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها)، فابن القيم يعتبر ان الوقت وعاء المصالح والعمل وأن من ضاعت منه ساعات أو سويعات فقد ضاعت معها المصالح كلها، ومن الحكم البالغة أيضا (من أمضى يوما في عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه)، ولذلك تجدون في هذه الحكمة كل ما يحتاجه الإسنان في حياته قد نص عليه سواء في طلب العلم أو العمل الصالح أو في غيرها من الأمور التي يعمل الانسان لها ويؤسس ويبذل من أجلها، ولذلك كل من أضاع ساعة من ساعاته أو وقتا من أوقاته في غير واحدة من هذه الأمور المنصوص عليها في هذه الحكمة فسيكون قد أضاع خيرا كثيرا.

وعندما نتحدث عن الوقت فدائما يتبادر الى الاذهان مسألة الساعة والدقيقة واليوم والليلة، ولكن هناك مفهوم آخر لمفهوم الوقت والزمن وله صلة بالفصول، فقد وردت أحاديث كثيرة وأقوال عديدة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان نجد على أنهم ينظرون أيضا الى الفصول باعتبارها زمن وأوقات نظرة إيجابية حري بنا أن نتمعن فيها، فعن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”الشتاء ربيع المؤمن طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه”، فتلاحظون أن هذه الالتفاتة منه صلى الله عليه وسلم في لفت نظر المؤمنين إلى هذا الفصل لما فيه من خصوصية ومميزات وهو أن ليله يطول وأن نهاره يقصر، فيدعونا في هذا الفصل أن نحرص على القيام لأن تلك السويعات التي يقوم فيها بين يدي الله عز وجل تكون له مفتاحا للخير كله، وكذلك يقصر يومه فيصوم ذلك اليوم على اعتبار ان الساعات القصيرة يقوى فيها الإنسان على الصيام ومكابدة الجوع والعطش فيه، وعن الامام أحمد بسند ضعيف :”الشتاء ربيع المؤمن يقوم ليله ويصوم نهاره”، وهذا الوصف الشتاء بالربيع فيه من البلاغة ما يمكن للإنسان ان يتوقف عندها، وإذا استحضرنا واقع الجزيرة العربية فإننا نستحضر معها نظرة هؤلاء الناس إلى الربيع وما يحمله من خصوبة وعطاء وما فيه من جمال وأمور ومحببة الى النفس، ولذلك تم وصف الشتاء في غير ما موضع بهذا الوصف الجميل وهو وصف الربيع، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : (ألا أدلكم على الغنيمة الباردة، قالوا بلى، فيقول : الصيام في الشتاء)، وتلاحظون أن قضية التنبيه إلى فصل الشتاء لكي يغتنم في مثل هذه الطاعات لا شك أن في ذلك ما فيه من الخير كله، وسنجد أن كل ما قيل في فصل الشتاء فيه لفت نظر إلى القيام وإلى الصيام على اعتبار أن القيام دأب الصالحين والمتقين فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه لكي يكون عبدا شكورا، والأمر الثاني أنه يرغب فيه بالصيام وكما تعلمون الصيام مسؤولية وانضباط وسلوك، ولا يزال الانسان يتقرب إلى الله تعالى بالصيام حتى تنضبط حواسه فلا يطلق بصره إلا إلى حلال ولا يتكلم بلسانه إلا في خير، ولا يسمع بسمعه إلا مباحا ولا يمشي برجله إلا الى فضيلة ولا يبطش بيده إلا فيما فيه نفع، فتكون حواسه كلها منضبطة بهذا الايقاع لأن الصيام فعلا ضابط إيقاع كل هذه الحواس، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (مرحبا بالشتاء تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام ) وتلاحظون أن دائما التركيز في فصل الشتاء على هذين الأمرين الهامين وهما قيام الليل وصيام النهار، وعن ابن مسعود : (إن الله ليضحك لرجل قام في ليلة باردة من فراشه ولحافه ودثاره فيتوضأ ثم قام الى الصلاة فيقول الله عز وجل لملائكته ما حمل عبدي على ما صنع : فيقولون ربنا رجاء ما عندك، وشفقة مما عندك فيقول قد أعطيته ما رجا وآمنته مما يخاف)، هذا الحديث فيه ما فيه من الترغيب في قيام الليل وفي الإقبال على ما عند الله عز وجل في مثل هذه الساعات، ولا تكون هذه الساعات في متناول المؤمن أكثر ما تكون في فصل الشتاء، ولذلك عرف عن عدد من الصحابة قيامهم لليل حتى أصبح من خصائصهم وصفاتهم ومميزاتهم وأيضا عرف عن بعض الصحابة بصيامهم فلا يذكرون إلا بصومهم للهواجر، وعن معاذ رضي الله عنه وهو في فراش الموت تذكر هذا الأمر وحن إليه وهو الصيام في الهواجر، حتى لا يظن على أن الصيام للكبار يكون في فصل الشتاء عندما يقصر النوم حرص الصحابة رضوان الله عليهم وخاصة معاذ وابو الدرداء وعبد الله بن عمرو بن العاص هؤلاء كانوا من أشهر الصحابة في اقبالهم على الصيام في كل أيامهم وفصلوهم.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون على دربهم وعلى خطاهم، وأن نكون من القائمين الصائمين امين.

مولاي أحمد صبير / سلسلة تبصرة

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى