النموذج التنموي الجديد ورهان تثمين العمل المدني – الحبيب عكي
كثيرة هي المجالات التي يراها البعض بمثابة القاطرات الحقيقية أو العربات المحجوزة للمرتقب من النموذج التنموي الجديد، وأن المؤمل فيه من النجاح إنما سيكون بمدى الاحترام الدقيق لهذا الترتيب، قاطرة وعربات سائق وركاب، سكة معبدة بمعالم معيارية وبوصلة قيمية منارة هادية، عكس ما تجرأ عليه البعض أيام الهدر التنموي من فقدان البوصلة أو تغييب السكة أو حتى وضع الحصان على ضخامته أمام العربة الهزيلة ولا يبالي. بين المجال السياسي والمجال الاقتصادي..المجال التنموي والمجال الديمقراطي الحقوقي..المجال التربوي الثقافي والمجال الاجتماعي الإبداعي..المجال البشري والمجال القانوني..إلى غير ذلك من الثنائيات الصرفة والتي مهما بدأت متكاملة فإن بعضها يتأسس على بعض، وإن يخطىء المهندس البناء موضعها وقدرها شكلها وتوقيتها، خيف على البناء ككل أن تصبح أبوابه المشرعة مجرد نوافذ ضيقة في أعالى الأعالي.
ولعل حجر الزاوية الأس والأساس في كل الأمر هو مجال عمل المجتمع المدني، وهو مجال كامل الخصوصيات أولا، ثم هو مجال كذلك له تواجد قوي في كل غيره من المجالات التربوية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية، البيئية والفنية وغيرها، من هنا وجبت تثمينه كقاطرة تنموية بقدرة خارقة، وكحاملة تنموية متجددة أيضا، لا زال عطاؤها بكرا بامتداد عالمي وأبعد ما يكون في الأفق القريب عن الأفول، وبالتالي فالمفلس المفلس من أفلست خططه وبرامجه من هذا التوجه المعبىء والوجه المنافس الرابح، وقد يقول قائل دون كثير جدال أن الأمر كذلك، وهو المعمول به على أرض الواقع، اعترفنا بالعمل المدني منذ فجر الاستقلال وأعطيناه كل شيء وعلى أكثر من صعيد، اعترفنا به كمنظومة العمل وأنشأنا لها قانون الحريات العامة والعمل الجمعوي، شجعنا امتداده على الصعيد الوطني بمئات الآلاف من الجمعيات، ساندناه بالمقاربة التشاركية كتوجه استراتيجي، ومررنا له مناولة مندمجة مشاريع وشراكات ومنح سخية ودائمة ومتعددة الروافد، وبوأنا له كل هذا بالأدوار الدستورية الجديدة من حق رفع المذكرات والعرائض والملتمسات.
والأمر أيضا صحيح من الناحية التشريعية والقانونية، ولكن من ناحية الممارسة العملية، فنحن أبعد ما نكون من الاعتراف بالعمل المدني الجاد فبالأحرى تثمينه وتشجيعه – رغم كل شيء – وإلا فلماذا كل هذا التشكي والشكي المضاد الذي يعتري العلاقات المتوترة بين بعض السلطات ببعض الجمعيات؟ لماذا كل هذا التهميش والتجاوز الذي تعاني منه العديد من الجمعيات مع العديد من الجماعات الترابية المحلية والجهوية بل ومع بعض المصالح الوزارية وبعض وكالات التنمية الاجتماعية فلا تدعم مما يقدم لها من المشاريع أزيد من 20 % فقط ؟ لماذا كل هذا الكم الهائل من الخدمات الرديئة والبيروقراطية التي لا زالت تسلط على الجمعيات في أبسط حقوقها وتنظيم أنشطتها من تراخيص قاعات وفضاءات ووصولات ملفات تجديدية ومنح وشراكات..؟؟ هل أصبحت الأدوار الدستورية الجديدة مفعلة – كما يقال – ؟ ما رصيدنا من رفع المذكرات والعرائض والملتمسات إلى مختلف الهيئات المعنية؟، بكم أسهم كل ذلك في صنع القرار التنموي والحقوقي؟ وبكم يسر كل ذلك في قضاء أغراض الوطن والمواطن ؟؟.
ليس من تثمين العمل المدني في شيء ما يعيشه وهيئاته وأهله وجمعياته من:
1- نظرة المن والصدقة والخدمة السخية المنطوية على حسن النية، إن وجدت أو الخدمة المستلفة مسبقا.
2- تحديد التوجه المدني المرحب به بتدليل صعوباته والترحيب بأهله والسخاء معهم مقابل التضييق على غيرهم.
3- استكثار لعب أدوار مدنية معينة وتفسيرها بما لا تفسر من الأدوار السياسية والنقابية كوساطة الحراك أوتنظيم حملة تضامنية أو إحسان عمومي فذلك لحظوة الحظوة.
4- شح الموارد المالية المزمن والذي تتكسر على صخرته جل المشاريع الجمعوية.
5-عدم القدرة على الجرأة ولا المجاراة لا في الطرح ولا في الموضوع مع المجتمع المدني الدولي، وربما الاستثناء الوحيد يكون قد وقع هو في تعبئة بعض الرأسمال الأجنبي مع كل المخاطر المرافقة.
6- تسيير المجالس الترابية دون المواكبة الدستورية للفاعل المدني ولا تنظيم ذلك، بل استنكار الرؤية السياسية على الفاعل المدني أصلا، وكأن هناك عملا بدون رؤية سياسية أو كل ذلك مباح إلا على الفاعل المدني.
7- الرقابة المفرطة على حرية التعبير والمبادرة في التغيير والمتابعة على ذلك ولو في العالم الافتراضي.
8- نشوب معارك معاصرة طاحنة بقدر ضمور دور الفاعل المدني: الانحراف..المخدرات..الهجرة..الجشع والغش..التطرف..التطبيع..ضعف الترافع والعمل المشترك على قضايا وطنية ودولية..تفاهة المحتوى بدل الإبداع الجمعوي المعهود.. تزييف الوعي والتنمية..وكأن بيننا وبين العمل المدني أو أي عمل آخر قرونا ضوئية.
9- غياب التكوين والتربية على القيم والسلوك المدني ومن صفوف المدارس والمعاهد والكليات كمشاتل للكفاءات والطاقات المجتمعية ومختلف المبادرات بشكل عام؟.
10- رداءة الخدمات التي قد تصل إلى منع أو تماطل في منح وصل الإيداع، فإذا بالجمعية المؤسسة الوطنية لا تستطيع فتح حساب ولا تداول صرف ولا تنظيم نشاط ولا مشاركة في برنامج ولا فعاليات ولا..ولا..وبين عشية وضحاها وكأنها لم تكن وهي التي عمرت في التطوع الوطني لعقود وعقود.
فبلا كذوب على الله، العمل المدني وخاصة الجاد منه، وبغض النظر عن حساسيته المرجعية الإسلامية أو اليسارية أو الأمازيغية..، لا زال يعاني الإقصاء والتهميش والتجاذب والاستثمار والاستقطاب المغرض وعلى أكثر من جهة أو ملابسات أو أخرى، وقد يرافق كل هذا تصرفات رعناء ونوايا غير بريئة – ولا أتهم -، ولكن، يبقى النموذج التنموي الجديد فرصة لمعالجة كل كوابحه وكوابح ما يبشر به من الشعارات البراقة والتي تظل المرحلة في أمس الحاجة إليها على أرض الواقع: كمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة / وآلية الحكامة الجيدة والحلول المتجددة / والخدمات الميسرة والمعممة في حق الجميع / إلى رفع أزمة الثقة والتوجس والتباعد بين مختلف الفاعلين / وتثبيت حق المشاركة للجميع / و وضع الإطار القانوني والمراسيم التنظيمية لذلك / وضعا يضمن توازن السلطات وتكاملها وتنافسها، ويضمن تحييد الإدارة حيادا إيجابيا، ومحاسبتها كلما نصبت نفسها طرفا ماديا أو معنويا غير ذلك، ومحاسبة ترفض كل مخطط أو برنامج جماعي أو قطاعي لا يساهم فيه المجتمع المدني مساهمة دستورية، فكرة وضعا وتنزيلا، مراقبة تقييما وتطويرا…وكلها مجالات محفظة للفعل والفاعل المدني بامتياز، فمتى نثمنهما ونرحب بنضالهما وخبرتهما بدل التضييق عليهما ومصارعتهما والحذر منهما و”سخسختهما” و المن عليهما ضدا على الدستور والأعراف والقوانين.