التوبة والاستغفار
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه
والصلاة والسلام على هادي البشرية إلى الرشد ومخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم سيدنا وإمامنا محمد عليه الصلاة والسلام.
لا شك إخواني أخواتي أن الإنسان يخرج إلى هذه الحياة على الفطرة طاهرا من كل دنس وغير ملوث بأي خطيئة أو ذنب، وفي مساره في الحياة لا بد أن يتعرض لاختبارات تكشف ضعفه الإنساني، يقول الله سبحانه وتعالى :”وخلق الإنسان ضعيفا”، وهذا الضعف الإنساني يوقعه في الخطأ والمعصية وبالمقابل يفتح أمامه باب التوبة والاستغفار، فكان هذا أول درس تلقاه آدم عليه السلام إمام وسيد المستغفرين والتائبين قبل خروجه من الجنة، فآدم عليه السلام الذي خلقه الله بيديه وأسجد له الملائكة وعلمه الأسماء كلها، ورغم ذلك لم ينجح أمام اختبار الإرادة، يقول الله سبحانه وتعالى:”فأزلهما الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه”، لكن القران الكريم لم يتوقف عند توضيح وتبيين خطأ آدم وسببه بل وضع منهجا للتعامل مع هذه الأخطاء الآدمية يقول سبحانه وتعالى :”فتلقى ادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم”، ويقول أبا قتادة في التعليق على هذه الآية “يدلكم على دائكم ودواءكم فأما داءكم فالذنوب وأما دواءكم فالاستغفار”، فكانت سنة الله في خلقه أن كل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون، وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم القيامة فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، فمهما علا كعب المؤمن في الاستقامة ومهما بذل من جهد في الطاعات ومهما ارتقى في سلم المتقين، فلا بد أن يشمله النداء الرباني بدعوته إلى التوبة ولاستغفار، يقول الله سبحانه وتعالى :”وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون”.
والتوبة والاستغفار في حياة المسلم لا تكون فقط عن ترك مأمور أو فعل محظور من أعمال الجوارح ولا تكون فقط من ذنوب البطن والفرج، فقد يقدم المؤمن بين يدي الله سبحانه وتعالى صلاة وصياما وتلاوة قرآن وصدقة ودعوة إلى الله تعالى وإسهاما في الإصلاح فيعجب بها ويتسائل مم أتوب ومم أستغفر؟ ولا يلتفت إلى الآفات الخفية من كبر وعجب وحب للرئاسة وحسد وإتباع لهوى، واستبداد واعتداد بالرأي وهي الذنوب والمعاصي القلبية فيما لا تراه الأبصار ولا تسمعه الآذان، ونبه الله سبحانه وتعالى إلى هذا الأمر إذ قال :”وذروا ظاهر الإثم وباطنه”.
وهذه الآفات إن لم يستغفر منها الإنسان ويجدد توبته قد تكون مهلكات كما وصفها الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، وهو ما حذر منه الرسول عليه الصلاة والسلام إذ قال في الحديث “إياكم ومحقرات الذنوب فمثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما انضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يأخذ بها صاحبها تهلكه”، فأنذر الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث مما قد لا يكثرت إليه الكثير فلا صغير مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار وما يحسبه المرء هين قد يكون عند الله عظيم.
وسيرة الرسل والأنبياء مليئة بأرقى وأجمل العبارات الاستغفار والخضوع والذل بين يدي الله سبحانه وتعالى طلبا للمغفرة وهم الرسل إلى عباده وعلى رأسهم سيدنا وقدوتنا رسولنا عليه الصلاة والسلام إذ قال :”والله إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجب كذلك على العبد بالإضافة إلى الاستغفار من هذه الآفات الخفية ومن معاصي القلوب أن يداوم الاستغفار عن أخطاء وذنوب ربما ارتكبها بغير علم ولم يلق لها بالا، لكن الله أحصاها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ومن ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام :”إن الرجل ليتكلم بكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في نار جهنم سبعين خريفا”، وفي هذا الباب أثر عن الرسول عليه الصلاة والسلام في طلب الاستغفار وطلب المغفرة منه سبحانه وتعالى من ذنوب لا يعلمها قوله صلى الله عليه وسلم :”اللهم اغفر لي م قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا اله إلا أنت”، وكذلك المؤمن في أطوار حياته يرتقي من حال إلى حال، وارتقاءه هذا لا بد أن يواكبه استغفار لما كان عليه من حال في الماضي، فكلما عرج المؤمن في مدارج المعرفة والقرب من الله سبحانه وتعالى إلا واستصغر وقزم ما كان عليه من حال في الماضي، فلهج لسانه بالاستغفار وقلبه بالتوبة النصوح، وقد وصف لنا القران الكريم لنا حال المؤمنين الذين قضوا ليلهم في صلاة وقيام ثم يأتي السحر فيستغفرون الله كأنهم لا يزالون يحسون بالتقصير في جنب الله، في وصفهم يقول الله سبحانه وتعالى :”كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون” وبمداومة الاستغفار ينال العبد حب رب العالمين إذ قال سبحانه وتعالى :”إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين”، وينال كذلك دعاء حملة العرش الذين هم مشغولون بالدعاء للتوابين وللمستغفرين يقول تعالى “ّالذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم”.
وفي هذه المنزلة، منزلة الاستغفار يجب على المسلم ألا ينسى إخوانه المؤمنين في طلب المغفرة لهم، فموكب المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض قال تعالى “ّربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا”.
وختاما إخواني أخواتي، الاستغفار والتوبة فرصة ورحمة من الله لعباده لاستدراك وتصحيح المسار واستئناف الأدوار في الحياة والأمر الذي لا يتحقق إلا باستدامة الفكر والتركيز والتأمل في أعملنا وأقوالنا وخواطرنا، لإدراك مساحة الخطأ فيها وإدراك مساحة الزيغ والطغيان فيها، وكذلك بالاستماع لنصح إخواننا، فالمؤمن مرآة أخيه، ورحم الله عبدا أهدى إلينا عيوبنا، وبذلك تنكشف الغشاوة فنبصر أخطائنا فنجدد الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتتعالى من أعملنا دقها وجلها، فالمؤمن يرى الذنب كالجبل يخاف أن يقع عليه، وما أحوجنا أن تصبح ثنائية الخطأ والتوبة منهجا نربي عليه أبناءنا وشبابنا حتى يستسهلوا الاعتراف بالخطأ ويتراجعوا عنه بالتوبة والأوبة ويصبح الاستغفار والتوبة في حياتهم أمرا مألوفا يعيشون عليه مع إدبار الليل وإقبال الصباح لتتسع مساحة رحمة الله سبحانه وتعالى في حياتهم، رحمته التي وسعت كل شيء بما فيهم المخطئين والمذنبين.
ولا يسعنا في ختام هذه الكلمة إلا أن نختم بدعاء حق له أن يسمى سيد الاستغفار وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام :” اللهم أنت ربي لا اله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”.
ذة.إيمان نعاينيعة / سلسلة تبصرة