قاعدة الأخذ بالأسباب، وأصناف الناس في ذلك
الناس في علاقتهم بالأسباب في الحياة الدنيا أصناف كثير منها: صنف يعتمد على الأسباب اعتمادا كاملا، إلى درجة يؤله فيها هذه الأخيرة ويراها مانعة من كل بأس وشر، وجالبة لكل نفع وخير، ولا شيء من العوامل الغيبية الخفية يمكن أن يقوم مقامها أو يصل إلى مرتبتها، وبالتالي فهو لا يرى في المقولات التي لا تتأسس على بذل الأسباب فائدة تذكر فهي محض خرافة لا يقبل بها عقل ولا يصدق بها منطق سليم، ويدافع عن موقفه ذاك بما أوتي من الأدلة والبراهين العقلية والواقعية ما قد يجعلك تساير منطقه ورأيه.
صنف ثان يرى أن الأسباب لا تنفع في شيء فلو شاء الله أمرا لحدث فهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فلا الوقاية من الموت بكل شكل يمكنها دفع قدر الله النازل من السماء أو الصاعد من الأرض، فلا ينبغي للإنسان إشغال نفسه بتدبير الخطط للنجاح أو تفادي الفشل، ولا على المتعلم أن يستعد للامتحان، وليس على الناس أن يضعوا كمامات توقيا من الإصابة بالمرض، وهكذا من الأمثلة التي لا عد ولا حصر لها.
صنف آخر يعتقد في الأسباب في غير ارتباط مع مسببها فهم يعتمدون على الأسباب ولكن لا يربطون بينها وبين من خلق الأسباب ـ البارئ جل في علاه ـ بل يرون أن المتحكم في الأسباب هو الإنسان نفسه، فهذا قسم يبدو أنه شط عن سواء الصواب وخالق العقل السليم والشرع الحكيم، شأنه شأن من سبقه من الأصناف السالفة الذكر.
هذه مذاهب متنوعة النظر والرأي في قضية اتخاذ الأسباب، وربما كانت معهم فرق أخرى لها تصورات غير التي ذكرنا. لكن نكتفي بها فحسبنا أنها دالة معبرة كافية في سياق إبراز مواقف الناس من موضوعنا هذا.
والمتأمل في سورة يوسف، وبخاصة منها ما ذكر عن ارشاد يعقوب عليه السلام لأبنائه، حينما توجهوا إلى بلاد مصر، فقد أمرهم ان يدخلوا من أبواب متفرقة توقيا للحذر مما قد يصيبهم من أذى الناس، مع تأكيده على أن هذا الأمر لا ولن يغني عنهم من أقدار الله شيئا، فلو أراد الله أمرا قال له كن فيكون، يقول تعالى ” وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ” يوسف، 67. جاء في تفسير الآية ما يلي: ” عن ابن عباس ، قوله: (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) ، قال: رهب يعقوب عليه السلام عليهم العينَ. وما أغني عنكم من الله من شيء) ، يقول: وما أقدر أن أدفع عنكم من قضاء الله الذي قد قضاه عليكم من شيء صغير ولا كبير , لأن قضاءه نافذ في خلقه ، (إن الحكم إلا لله) ، يقول: ما القضاء والحكم إلا لله دون ما سواه من الأشياء , فإنه يحكم في خلقه بما يشاء , فينفذ فيهم حكمه , ويقضي فيهم، ولا يُرَدّ قضاؤه ، (عليه توكلت) ، يقول: على الله توكلت فوثقت به فيكم وفي حفظكم عليّ، حتى يردكم إليّ وأنتم سالمون معافون , لا على دخولكم مصر إذا دخلتموها من أبواب متفرقة ، (وعليه فليتوكل المتوكلون) ، يقول: وإلى الله فليفوِّض أمورَهم المفوِّضون” انتهى .
ومنه يكون المنهج الأسلم إزاء ما عرضناه من الأصناف قبل، ضرورة اتخاذ الأسباب الكافية في حياتنا، مع اليقين في قدر الله تعالى، فلا أسباب تنفع في حد ذاتها ولا هي تقي شر المهالك او تجلب للناس المنافع، فالحذر لا يقي القدر. والله تعالى أعلى وأعلم .
بقلم: عبد الحق لمهى