الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان وحسن توديعه
الحمد لله فاطر الأرض والسماوات، رزاق جميع المخلوقات ذو القوة المتين، علام الجهر والخفيات، المطلع على الظواهر والنيات و هو السميع العليم ، القائل سبحانه وهو أصدق القائلين(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد المنزل عليه في الذكر الحكيم”(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمُ إِلَى صراط مستقيم).
و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها النجاةَ يوم لقائه والتوفيق إلى العمل ابتغاء مرضاته
ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبد الله ورسوله أكمل الناس خَلقا وخُلـُقا، وأتقاهم لربه، وأخشاهم له،و أخلصهم تعبدا لله ورقا، جاهد في الله حق جهاده، وأسهر ليله، وأظمأ نهاره، حتى عصب الحجر على بطنه، وتفطرت قدماه من طول قيامه، واستمر راضيا مرضيا حتى لقي مولاه على طاعته فصلى الله عليه وسلم من نبي أمين، ناصح حليم، وعلى آله وصحابته والتابعين ، وعلى من حافظ على دينه وشريعته واستمسك بهديه وسنته إلى يوم الدين .
أما بعد، من يطع الله ورسوله فقد رشد و اهتدى، وسلك منهاجا قويما وسبيلا رشدا ومن يعص الله ورسوله فقد غوى واعتدى، وحاد عن الطريق المشروع ولا يضر إلا نفسه ولا يضر أحدا، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله، حتى ينال من خير الدارين أمله وسؤله، فإنما نحن بالله وله .
عباد الله : اتقوا الله؛ فإنَّ تقواه أفضل مكتسَب، وطاعته أنفع للمؤمن من ارتفاع الحسب وعلو النسب: وصدق اللهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) أيها المؤمنون أقبلَ علينا بالأمس رمضان ضيفا مُشرقَ الميلاد، شهرا للتنافس في الخيرات وموسماً للتـُّقاةِ والعُبـَّاد، فها هو الضيف الكريم شدَّ إلى الرَّحيلِ متاعَه بعد أن زوَّد الدنيا بخيرِ الزَّاد، هذا رمضانُ دنا رحيلُه وأزِف تحويلُه، قد ذهبت معظم لياليه وأيامه ولم يبق منه إلا القليل، فهنيئًا لمن زَكت فيه نفسُه، ورقَّ فيه قلبُه، وتهذَّبت فيه أخلاقُه، وعظُمَت فيه للخير رغبتُه، هنيئًا لمن كان رمضانُ عنوانَ توبتِه، وساعةَ عودتِه واستقامتِه، هنيئًا لمن عفا عنه العفوُّ الكريم، وصفَحَ عنه الغفورُ الرحيم، هنيئًا لمن أُعتِقت رقبتُه وفُكَّ أَسرُه، جعلَنا الله جميعاً ممن فاز بالجنة وزُحزِح عن النَّار، (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ،وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) آل عمران
أيُّها الصائمون : إن في استقبال رمضانَ وتودِيعه فرصةٌ للتَّأمُّل ! عسى أن نُصلح من أمورنا الخلل ونقوِّم من أخلاقنا المُعوَّج فتلك ثمرة العيش مع القرآنِ الكريمِ تلاوةً وتدبُّرا، و ذلك أثر خشوع القلوبُ واطمئنان النفوسُ.
فيا أيها المسلمون في كل مكان نقول لكم ولأنفسنا معكم ولأهل الحل والعقد في بلاد الإسلام: ما أجدرنا ونحن في العشر الأواخر من شهرنا المبارك، أن ننهض لإصلاح أوضاعَنا المأساويةَ، ومداواة جِراحَاتَنا والكف عن خلافاتنا وشقاقاتنا و قطع أرحامنا والإساءة إلى جيراننا والتحالفات مع أعدائنا ضد إخواننا، فإلى متى يظل المسلمونَ عاجزين أن يتَّخِذوا حلاًّ عادلاً يحقن دماء إخوانهم، ويعيدوا لهم أمنَهُم ومَجدَهم فإنهُ لا صلاح لأحوالِنا ولا استقرار لشعوبنا إلا بالتَّمسُّكِ بشرع الله واتخاذِ القرآنِ الكريمِ منهجا ودستوراً مُهيمناً ألم يقل سبحانه(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) نعم هذا هو الأمل، لكن علينا الصدقُ والعملُ، وقى اللهُ المسلمين الفتنَ ما ظهر منها وما بطن !
أيُّها الصائمون والصائمات: نحمد الله أن باتت مساجدُنا ولها دويٌّ كدويِّ النَّحل صلاةً ودعاءً، وقراءةً وذِكراَ، وكم فرحنا بعودة إخوانٍ لنا كانوا يتخلَّفون فصرنا بحمد الله نراهم في رمضانَ رُكعاً سُجَّدا فما أكرمَك يا رمضانُ! وما أعظمَ فضائِلَكَ يا شهر التوبة والإنابة والغفران! رمضان مدرسةٌ عظيمةٌ تربط الصائمَ بصلاته ودينه فما أجدرنا جميعا أن نعمل في حياتنا كلها بقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (الإسراء 78) وما أجدرنا أن نضع نصب أعيننا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاةُ الْعِشَاءِ ، وَصَلاةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا مِنَ الرَّغَائِبِ لأَتَوهُمَا ، وَلَوْ حَبْوًا )(البخاري و مسلم).
أيُّها الصائمون والصائمات: شهرنا علَّمنا الجودَ والبِرَّ والإحسانَ فالحمد لله شاهدنا أثره في سلوك الناس فهذا مُتَصَدِّقٌ، وهذا مُفَطِّرٌ، وهذا معتنٍ، بفراش بيت الله و هذا مسارع لتقديم الخدمات لعمار بيت الله وهذا متفقد أحوال أهله وجيرانه بالمساعدة والإكرام، فلا تغفلوا عن هذه الصِّفاتِ العاليةِ والأخلاقِ الحميدة. كيف ونحن نرى حال إخواننا المحتاجين والمعوزين ؟ كيف و الله يقول(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وجزى اللهُ كلَّ من قدَّم وأنفق وأعانَ. لكن متى نفكر في تحويل العمل التطوعي الفردي إلى سياسة دولة تعمل على معالجة الفقر والحاجة وجعل البؤساء أفرادا عاملين منتجين بدل البقاء في حالة التسول وانتظار العطاء .
أيُّها المؤمنون: من اجتهدَ بالطَّاعاتِ وعملَ الصالحاتِ فليحمدِ الله على ذلك وليزددْ منها وليسألْ ربَّه القبولَ فإنِّما (يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ولَمَّا نزلَ قولُ الله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) قالت عائشةُ رضي الله عنها يا رسول الله أهم الذين يشربون الخمرَ ويسرقونَ؟ قال : لا يا ابنةَ الصديقِ ولكنَّهم الذين يصومون ويصلون ويتصدَّقونَ ويخافون ألا يقبلَ منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات .
قالَ عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وأرضاه: ” كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل ” فيأيُّها الصائمُ المقصِّرُ: وكلُّنا ذاك الصائم المقصر أمَامَنَا بابُ أملٍ كبيرٍ فنحن في بقية باقية من عشرٍ فاضلاتٍ وأيامٍ مباركاتٍ فلنتدارك ما فات ولنبكِ على الخطيئةِ ولنعقدِ العزمَ على الطاعة فربُّنا غفورٌ رحيم يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيءُ النَّهار ويبسط يده بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل وذلك كلَّ ليلة.
فاللهم أمنن علينا بتوبةٍ صادقةٍ نصوح يارب العالمين اللهم تب على التائبين واغفر ذنوب المستغفرين يا أرحم الراحمين أيُّها الصائمون و الصائمات اعلموا أن ما تبقى من ليال رمضان أفضل مما مضى، والدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان (إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي رواية مسلم: (كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) وهذا يدل على أهمية وفضل هذه العشر من وجوه:
أحدها: إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد المئزر، وهذا كناية عن الجد والتشمير في العبادة، وقيل: كناية عن ترك النساء والاشتغال بهن.
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم يحي فيها الليل بالذكر والصلاة وقراءة القرآن وسائر القربات.
وثالثها: أنه يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر حرصاً على اغتنام هذه الأوقات الفاضلة.
ورابعها: أنه كان يجتهد فيها بالعبادة والطاعة أكثر مما يجتهد فيما سواها من ليالي الشهر.
وعليه فاغتنموا عباد الله بقية شهركم فيما يقرِّبكم إلى ربكم، وبالتزوُّد لآخرتكم ولتحرصوا على أن يصلي أحدكم صلاة القيام مع الإمام حتى ينصرف ليحصل له قيام ليلة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) رواه أهل السنن وقال الترمذي: حسن صحيح.
كما عليكم عباد الله أن تجتهدوا في تحري ليلة القدر في هذه العشر فقد قال الله تعالى:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3]. ومقدارها بالسنين ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر. قال النخعي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر. وقال صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم [إيماناً] أي إيماناً بالله وتصديقاً بما رتب على قيامها من الثواب. و[احتساباً] للأجر والثواب وهذه الليلة في العشر الأواخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) متفق عليه. وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) رواه البخاري. وهي في السبع الأواخر أقرب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أوعجز فلا يغلبن على السبع البواقي) رواه مسلم. وأقرب السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين) رواه مسلم.
وهذه الليلة لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل في الليالي تبعاً لمشيئة الله وحكمته، والأجر المرتب على قيامها حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها…ا.هـ
سعيد منقار بنيس