الأمة بين رمضان والقرآن
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين،
أحمد الله أن جمعني بهذه الوجوه الخيرة في هذا اليوم المبارك وفي هذا المكان المبارك وأسأل الله أن يجعلنا من المتحابين فيه والمتجالسين فيه الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
لا يخفى عليكم في هذا اليوم من الفضل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مطرقة مسيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة إلا الإنس والجن، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائما يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها)، هذا اليوم العظيم الذي خلق فيه الله أبانا آدم عليه السلام وأهبطه إلى هذه الأرض إيذانا باستخلاف هذا الجنس البشري في هذه الأرض، خص الله به هذه الأمة من بين الأمم، فقد كان مطلوبا لكل الأمم لكن الله هدى إليه المسلمين وأضل عنه الأمتين السابقتين فلذلك الناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد، كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا هذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له، والناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد )، فيه هذه الساعة المباركة التي هي موسم إجابة لا يسأل الله سبحانه وتعالى أي عبد من عباده في حاجة إلا أعطاه إياها، وقد ثبت في الموطأ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن عبد الهل بن سلام رضي الله عنه أنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فلذلك اختار الإخوة هذه الساعة دائما لإحيائها باللقاءات الخيرة الطيبة التي تتلقاها ملائكة الرحمان كما ثبت في الصحيح (إن لله ملائكة سيارين في الأرض بغيتهم حلق الذكر فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا فإذا انصرفوا انطلقوا إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم : ماذا يقول عبادي؟ فيقولون يحمدونك ويكبرونك ويهللونك ويسبحونك، فيقول هل رأوني؟ فيقولون لا، فيقول فكيف لو رأوني، فيقولون وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكرا، فيقول ماذا يسألونني؟ فيقولون يسألونك الجنة، فيول هل رأوها فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوها فيقولون وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا لها أشد طلبا وأشد حرصا، فيقول ومماذا يستعيذونني؟ فيقولون يستعيذونك من النار، فيقول وهل رأوها؟ فيقولون لا، فيقول فكيف لو رأوها؟ فيقولون وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفا، فيقول لهم أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك يا رب فيه عبدك فلان وليس منهم وإنما جاء لحاجته، فيقول هم الرهط أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
لذلك نحن نجتمع ونحن نستقبل شهرا مباركا الذي جعله الله موسما من مواسم الخير، وخص به هذه الأمة أيضا، هذه الخصوصية لها معنى وعظة، فإن الله سبحانه وتعالى خص هذا الشهر بمزيد من الفضل والعناية وجعله مبدأ لانطلاق هذه الأمة، لأن هذه الأمة الخاتمة للأمم مبدأها هذا الوحي المنزل من عند الله، وقد افتتح الله نزوله في ليلة القدر على محمد صلى الله عليه وسلم بغار حراء وذلك في رمضان، ولهذا قال الله تعالى :”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن” وقال “إنا أنزلناه في ليلة القدر” فدل ذلك على أن ليلة القدر في رمضان، وقد اختار الله عز وجل هذا الشهر لنزول هذا الوحي الشريف وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اختار لأمور أخرى ثبت في سنن النسائي أنه قال ( عند دخول رمضان فتحت أبواب السماء وأغلقت أبواب جهنم وصفدت مردة الشياطين)، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النيران وصفدت مردة الشياطين )، والحديثان لا تعارض بينهما ففتح أبواب السماء معناه استقبال الدعاء فلذلك ما من شهر الدعاء فيه آكد وأضمن في الإجابة من هذا الشهر لأن الله يفتح فيه أبواب سماواته لاستقبال دعوات عباده، وكذلك فتح أبواب الجنة حيث يصل منها الخير والبركة والنماء إلى الأرض وكذلك إغلاق أبواب جهنم فإن كل شر يصل إلى الأرض هو من جهنم أعاذنا الله منها، فالبرد الشديد من جهنم والحر الشديد من جهنم والأوبئة والأمراض والآفات التي تتنزل على أهل الأرض تأتي بها النيازك أو الكواكب أو غير ذلك من الرياح كلها أضرار من جهنم، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اشتكت النار لربها فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف وذلك أشد ما يكون الحر والبرد ) فالنار فيها الزمهرير وهو البرد الشديد وفيها الجحيم وهو الحر الشديد وما يصل إلى الأرض من حرارة يأتي مرورا بالشمس وهي أشد الكواكب حرارة في مجموعتنا، وما يأتيها من البرد ياتي بواسطة الكواكب المعاكسة للشمس، وهي شديدة البرد، وكل ذلك قادم من النار أعاذنا الله منها.
وكذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم خصوصية هذا الشهر بتصفيد مردة الشياطين وفي ذلك نعمة عظيمة على الإنسان، لأنه في هذه الدار ممتحن، كأنه جالس على كرسي الامتحان وعليه خمس رقابات : الرقابة الأولى رقابة الملك الديان سبحانه وتعال فهو يعلم ما في أنفسكم ” يعلم السر وأخفى”، ” ونحن أقرب إليه من حبل الوريد”، فلذلك هو الشاهد الذي لا يغيب وهو معكم أينما كنتم ” ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أينما كانوا”، والرقابة الثانية هي رقابة الملائكة الكرام فإنهم يحصون على الإنسان عمله ولذلك قال الله تعالى ” وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون”، وقال تعالى “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد” وقال تعالى “له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله”، وقد قال الحافظ بن حجر رحمه الله (بالتقصي تبين أن مع كل واحد من البشر واحد وعشرون ملكا فمنهم صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات، وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات، والقرين الذي يلم بقلبه وملائكة الجوارح كل جارحة عليها ملك، والملائكة الذين يتعاقبون في الناس فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر فإذا ارتفعوا إلى ربهم سألهم وهو أعلم فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون فيحصل بذلك واحد وعشرون ملكا مع كل واحد من البشر، والرقابة الثالثة رقابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فكل أمة بعث الله فيها رسولا جعله شهيدا عليها ومراقبا على أعمالها يشهد عليها بأعمالها يوم القيامة، وقد اختار الله لهذه الأمة أفضل رسله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو شهيد على هذه الأمة بأعمالها كما قال الله تعالى “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونـــوا شهــداء على النــاس ويكون الرسول عليكم شهيدا”، وقال تعالــى” فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا” وقال تعالى ” ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء”، وهو الشاهد الذي لا يجرح ولا يطعن في شهادته وتعرض عليه أعمال أمته في قبره فيشهد بها ودليل هذا العرض قوله صلى الله عليه وسلم (فإن صلاتكم معروضة علي)، وأيضا أن الشهادة من شرطها العلم وقد ثبتت الشهادة فيما ذكرنا من الآيات وغيرها فقال تعالى ” إلا من شهد بالحق وهم يعلمون”، وقال ” وما شهدنا إلا بما علمنا”، وقد أخرج البيهقي في السنن من حديث ابن عباس بإسناد فيه ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أترى الشمس إذا طلعت قال نعم، قال على مثلها فاشهد أو دع) فلا يحل للإنسان أن يشهد بما لا علم له به، وهو قطعا يشهد على الأمة بعملها وذلك دليل على أن عملنا معروض عليه، وحينئذ سيسر بحسنه لأنه حريص علينا ويساء بسيئه لأنه لا يحب لنا إلا الخير، ولذلك قال (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم) كما أخرج ذلك البخاري في صحيحه.
في رمضان تلاحظون أن الوقت أوسع وأرحب لأن البركة التي فيه أكبر، وتلاحظون أن النفس تقبل من الإنسان أن يبقى في المسجد لانتظار الصلاة بعد الصلاة وهذا قل ما يجد له الإنسان فرصة في الأيام الأخرى في غير شهر رمضان، والسبب أن النفس الآن قد أعن عليها بسد أبواب الشهوات.
ثم الجبهة الثالثة وهي إخوان السوء أعاننا الله عليهم بالصيام فإنهم لا يأتون إلا من أجل الشهوات فإذا لم يجدوا طعاما ولا شرابا ولا كلاما في ما لا فائدة فيه انصرفوا، والجبهة الرابعة وهي مفاتن الدنيا وشهواتها أعاننا الله عليها بالصيام بأنه تذكير بالآخرة، فالصائم متشبه بالملائكة الكرام عبادتهم دائمة لا تنقطع المسبح منهم يسبح الدهر كله ولو مضى عليه مليارات السنوات، كما قال الله تعالى “يسبحون بالليل والنهار لا يفترون”، ليس لهم فترة لنوم ولا لأكل ولا لشرب ولا لراحة، كل الوقت للتسبيح، والراكع منكم راكع أبد الأبدين ولو مضى عليه مليارات السنين، والساجد منهم ساجد أبد الآبدين ولو مضى عليه مليارات السنين، ولذلك أخرج ابن جرير الطبري بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أطت السماء وحق لها أن تئط فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع)، والملائكة الكرام هم جنس من خلق الله جعلهم فوقنا لنتأسي بهم ونقتدي ولذلك كان الإيمان بهم ركنا من أركان الإيمان، أركان الإيمان الستة هي أصول التفكير لأن الإنسان بإيمانه بالله يتحرر من الأغيار وبإيمانه بكتب الله يعلم مصادر العلم التي هي يقينية قطعية، وبإيمانه برسل الله يعرف أن لله عبادا اصطفاهم وعصمهم وهم الذين يطيعونه ويعملون بأمره ويجاهدون في سبيله ويدعون إليه ويبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وهم بشر مثلنا في البشرية فعلينا أن نقتدي بهم “فبهداهم فاقتد”، والإيمان بملائكة الله يبين لنا الطبقة التي فوقنا من خلائق الله الذين وحدهم لطاعته وخلصهم لعبادته لم يمتحنهم بالشهوات ولم يسلطها عليهم، وإنما امتحنهم بالطاعات وسخرهم لها فطاعتهم هي سعادتهم، الإنسان الآن له مبتغيات أخرى غير الطاعة يبحث عن السعادة في شهواته، يبحث عنها في نومه وراحته، والملائكة ما لهم سعادة إلا بالطاعة، فقد خلقوا لها وسخروا لها، الإيمان بالله وقدره خيره وشره معين للإنسان على عدم الإحباط وعدم الهزيمة لأن القدر يقتضي من الإنسان إذا آمن به أن يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، ولهذا قال الله تعالى ” ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم”، لكي لا تأسوا أي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا ولا تفرحوا بما آتاكم منها، لأن ذلك كله قد كتب ورفعت الأقلام وجفت الصحف، والإيمان باليوم الآخر يقتضي من الإنسان أن يعلم أن هذه الدار لا تساوي شيئا ولا ينبغي أن تكون جل اهتمامه ولا مبلغ علمه وألا يعمل لها، فرزقه مضمون ” وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها” لكن عليه أن يعمل لدار القرار و”إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون” فهي الحياة الحقيقية التي لا تنقطع وبذلك تكون هذه الأركان جميعا محررة للعقل البشري ومنورة له، ولذلك لم يكن الإيمان بالجن ركنا من أركان الإيمان لأنهم ليسوا قدوة لنا ولا أسوة بخلاف الملائكة الكرام، فنحن معشر البشر جعلنا الله بين نوعين من أنواع الخلائق نوع أسمى من نوع وهم الملائكة الكرام، ونوع أدنى من نوع وهو الحيوان البهيمي، فالملائكة سخروا للطاعات ولم تسلط عليهم الشهوات، والحيوان البهيمي سخر للشهوات ولم يمتحن بالطاعات، ونحن جمع الله لنا بين الخاصيتين خاصية الملائكة بالطاعات وخاصية الحيوان البهيمي بالشهوات فنحن نجمع بين العالمين، فمن اتبع الشهوات وضيع التكاليف التحق بالبهائم بل كان أدنى منها لأن الحجة على الإنسان أكبر من الحجة على الحيوان، قال تعالى ” إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا”، وقال ” والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم”وقال تعالى” واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد غلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القول الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتذكرون ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون” وقال تعالى ” مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين”، فلذلك كان الذين يتبعون الشهوات ويعرضون عن الطاعات بمثابة البهائم وأخس من البهائم فهم مثل الكلاب والحمير كما ضرب الله لهم المثل في كتابه وجعلهم أخس أنواع الخلائق كما قال الله تعالى إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية” وشر البرية معناه هم أخس ما خلق الله فهم أرذل من فيروس السيدا وكل أنواع الفيروسات أو أخس من كل ذلك، وإذا أدى الإنسان التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهم الملائكة الكرام كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الذي يقرأ القرآن ولا يتعتع به وهو عليه شاق فهو مع السفرة الكرام البررة ) وهم خيرة الملائكة الكرام، فلذلك أعاننا الله سبحانه وتعالى في رمضان على هذه الجبهة وهي جبهة مفاتن الحياة الدنيا وشهواتها بتذكرنا للدار الآخرة، فالذي يصوم متشبه بالملائكة لأن الملائكة لا تأكل وهو صائم من طلوع الشمس إلى مغربها وهو في عبادة، إذا نام لا يقطع ذلك عابدته، وإذا دخل السوق واشترى وباع لا يقطع ذلك عبادته،و إذا دخل المسجد وصلى أو قرأ القرآن لا يقطع ذلك عبادته الأولى فهو في عبادة مستمرة هي تشبه بالملائكة الكرام في طاعتهم، ولذلك كان الصوم يختص بغيره من العبادات بمزيد أجر وثواب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يقول الله تعالى كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها قال إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)، ودل على ذلك قول الله تعالى ” إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”، وجمهور أهل التفسير يفسرون الصابرين بالصائمين، ولا يدخل في هذا المقياس عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء بل هو جزاء من عند الله وهو الجزاء الأوفى، ولذلك المتشبه بالملائكة الكرام لا يمكن أن يركن إلى أوساخ الدنيا وما فيها مما هو زائل مضل، فكل ما يبتغيه الناس فيها مصيره إلى زوال إذا أعجبك أي شيء فيها فانظر إلى مثله وبقيته في القمامات والأوساخ، السيارات الفارهة إذا أعجبتك أي ماركة فاذهب إلى القمامات فستجد بقايا تلك السيارات، والمباني الشاهقة إذا أعجبتك فاذهب إلى القمامات فستجد شظاياها وأنقاضها، والملابس الجميلة إذا أعجبتك فانظر إلى القمامات فستجد قطعا منها بالية، وهكذا في كل أموال الدنيا وزخارفها وكل ما يرغب الإنسان فيها مآله إلى أن يتضرر به الإنسان من رائحته ولونه ويكرهه كراهة شديدة إما أن تنتقل عنه وإما ينتقل عنك.
والجبهة الأخيرة وهي جبهة النعم، أعاننا الله عليها في رمضان بذكرها فالإنسان إنما يهمل الشكر على النعم لغفلته عنها، ففي رمضان نبه الإنسان وهذا التنبيه من سنة الله ولطفه بالعباد ألا ترون أنكم عندما تدخلون الصلاة يجهر الإمام بتكبيرة الإحرام لينتبه الجميع فيدخل في الصلاة، فيمكن أن يسهو أحدنا أو بعضنا فإذا حان وقت الركوع جهر الإمام بالتكبير ليرجع الإنسان وينتبه، فيعود مرة أخرى فإذا ركع يمكن أن يسهو فيكبر الإمام سمع الله لمن حمده فينتبه فإذا قام من الركوع فقد يسهو فإذا حان وقت السجود يرفع الإمام صوته بالتكبير لينتبه الإنسان، وهذا التكبير اختير من بين العبادات الأخرى فلم يقل سبحان الله ولا الحمد لله ولا لا إله إلا الله وإنما اختير التكبير ليقطعك عما أنت فيه فالله أكبر، كل ما دون الله لا يساوي شيئا من جلاله سبحانه وتعالى وعظمته وكبريائه، وقد ورد في الحديث لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت عنه قال يا ابن آدم إلى من تلتفت أنا خير ممن التفت إليه)، وهذا التنبيه واقع أيضا في الصيام فإنه يذكرك بأوقات كنت فيها محتاجا فأغناك الله كنت لا تجد ما تطعم به أهلك فأعطاك الله فتتذكر حال الفقراء الذين لا يجدون ما يسدون به خلتهم وقديما قال حاتم بن عبد الله الطائي :
لقدما عضني الجوع عضا فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
فمن حكمة مشروعية الصيام أنه تذكير لنا بنعم الله علينا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا آوى إلى فراشه (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم من لا كافي له ولا مؤوي) فتتذكر هذه النعم العظيمة الجليلة ويكون ذلك عونا لك عليها.
إذن فرمضان عون لك على الجبهات الخمس جميعا، ما من جبهة من الجبهات إلا وقد أعنت عليها في رمضان، ورمضان زيادة في العمر فالإنسان ما من شيء أحب إليه من عمره، هو حبيب الإنسان الأول، إذا فكر في أي حبيب وبقي له العمر سيبقى عنده أمل أن العمر سيعوضه ذلك الحبيب ولو كان أبا أو أما أو زوجا أو أخا لأن كل ما سوى العمر مخلوف، لكن في الواقع إن العمر في الأصل حدد وكتب وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين قال حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمة أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح فيأمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ) والناس يحفظون هذا الحديث من الأربعين النووية وقد زاد فيه الإمام النووي رحمه الله أربعين يوما نطفة ولا توجد هذه اللفظة في الصحيحين، والذي يعلم أن عمره مكتوب ويعلم أن نهايته حتمية ويعلم أنها مجهولة بالنسبة إليه، يسعده فعلا أن يزداد عمره وهذه الزيادة أيضا ليست وهمية إنما هي قطعية، ما هي هذه الزيادة؟ هي في حق من أدرك ليلة القدر فقامها إيمانا واحتسابا فإن الله قال ” وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر”، عادة الله في كتابه أنه إذا قال ما أدراك معناه أنه سيبين ذلك، وإذا قال ما يدريك فإنه لن يبينه، فالمضارع جاء في ذكر القيامة ” وما يدريك لعل الساعة قريب”، فهذا لا بيان له ولا يعلمه إلا الله، لكن إذا قال ما أدراك فسيأتي البيان بعدها، كما قال هنا ” وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر”، وخير أصلها أخير ولكن لكثرة الاستعمال حذفت منها الهمزة كما قال ابن مالك وغالبا أغناهم أن يقولوا أخير منه وأشر وقالوا خير منه وأشر، فلذلك هي أخير من ألف شهر أي أكثر خيرا ونفعا وثمرة وفضلا من ألف شهر، فهي إذن زيادة في العمر تعادل أربعا وثمانين سنة وستة أشهر، في حق أقل الناس لأن الخيرية تقتضي زيادة إذا قلنا هذا خير من هذا معناه أن أكمل كل ما في المرء من خير وزاد عليه وتلك الزيادة غير محصورة فهي متفاوتة بحسب الفضل عند الله، فمن الناس من تكون ليلة القدر في حقه أفضل من آلاف السنوات ومنهم من تكون أفضل من آلاف الأيام ومنهم من تكون آلاف الشهور وأقلهم درجة التي تكون في حقه أفضل من ألف شهر، فلذلك هذه الليلة العظيمة أخفاها الله في ليالي رمضان ليطلبها الناس من أول رمضان إلى آخره، وفيها أقوال كثيرة والذي يترجح من أقوال أهل العلم أنها متنقلة في رمضان أغلب ما تكون في العشر الأواخر، واغلب ما تكون في العشر من أوتارها، لكن مع ذلك محتمل أن تكون في كل ليلة من ليالي رمضان فهي متنقلة فيه، لكن وجدنا دليلا على أنها في رمضان لا تتعداه وهو ما ذكرناه في نزول القران بأن الله قال “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن”، وقال “إنا أنزلناه في ليلة القدر”، وقد تواترت رؤى الصحابة رضوان الله عليهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام من الأعوام، أنها في العشر الأواخر، لكن لا يقتضي ذلك أنها دائما في العشر الأواخر، فقد تتعداهم، وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوائل من رمضان فأتاه جبريل فقال أن الذي تطلبه أمامك فاعتكف العشر الأواسط فقال أن الذي تطلبه أمامك فاعتكف العشر الأواخر فلم يزل يعتكفها ويعتكفها أزواجه من بعده، كما ثبت ذلك في الصحيح، وقد بين الله الفضل في هذه الليلة المباركة وبين خصائصها ومنها أنها تتنزل فيها الملائكة الكرام وقال فيها “بإذن ربهم”، والمقصود بإذن ربهم أي بأمره، ودليل ذلك ما جاء في سورة مريم في قوله تعالى حكاية عن الملائكة الكرام “وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا كذلك ما كان ربك نسيا”، وهي سلام من كل أمر من الأمور أو السلام هو تسليم الملائكة فيها فهم يسلمون على عباد الله المؤمنين فيها، وذلك من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فهي سلام وأمان إلى طلوع الفجر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علاماتها فذكر أن الشمس في يومها تصبح حمراء ليس فيها أشعة أي تطلع كذلك، وسألهم كما في صحيح مسلم أيكم رأى القمر البارحة فبين لهم أنه طلع كشق جفنة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل قيامها فقال (من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له)، وهذا الحديث مقتضاه أن من وفق لقيامها وتقبل الله منه “إنما يتقبل الله من المتقين” فسيكون ذلك تكفيرا لسيئاته وجعل ذلك في كل رمضان في قيامه وصيامه كما في حديث أبي هريرة أيضا في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، كذلك من خصائص هذا الشهر أن فيه ليلة المغفرة وهي آخر ليلة من رمضان، يعتق الله فيها رقاب الصائمين من النار والمقصود بالصائمين الذين صلح صيامهم واستقام فسلم لهم رمضان وتسلمه الله منهم، فكان رمضان لهم وهؤلاء هم الذين يستحقون الجائزة وهي في آخر ليلة من رمضان، قالوا يا رسول الله أليلة القدر هي؟، قال لا، وغنما العامل إنما يوفى أجره عند نهاية عمله، وهذا الشهر مرتبط بالقرآن فكانت بداية نزول القرآن فيه، وكانت مدارسة جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم القران فيه، ولذلك كان تهذيب النفس فيه أوفر لأن القران مهذب للنفوس بالأوامر والنواهي والمواعظ والعبر والأيام الله الخوالي وما يرجى من إحسانه وفضله، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وحين يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان فالرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة)، فالرسول صلى الله عيه وسلم ما عرفت البشرية أجود منه، ولذلك كان يعطي الرجل ما بن الجبلين من الإبل وما بين الجبلين من الغنم ويعطيه من الذهب حتى ما يقله أي لا يستطيع حمله وقد جاءه أعرابي إلى سمرة يوم أوطاس فتعلق بها رداءه فقال إليكم عني فلو كان عندي مثل سمر تهامة لقسمته بينكم ثم لم تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ) هو أجود الناس في حديث جابر في الصحيح (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ما سئل شيء قط فقال لا)، إن كان عنده أعطى وإلا رد بميسور من القول، وهذا الذي علمه الله في كتابه فالله يقول له “إما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا”، لكن كانوا يشعرون بزيادة في سخائه في شهر رمضان وقد بين ابن عباس سر ذلك وهو مدارسة القرآن، والكرم والسخاء إنما يكون بزوال الشح والبخل، وقد قال الله تعالى ” ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون”، فالشح والبخل من أمراض القلوب، وقد اختلف أهل العلم هل الأصل في الإنسان اتصافه بإمراض القلوب أم الأصل البراءة منها، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأصل في الإنسان البراءة من أمراض القلوب واستدلوا بقول الله تعالى: “فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم”، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكونا أبواه هما الذين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وبقوله صلى الله عليه وسلم (ما من أحد منكم إلا يولد كما تنتج البهيمة البهيمة جمعاء فهل ترى فيها من جدعاء وفي رواية فهل ترى فيها من جدع وقت ميلادها ) وذهب الإمام أو حامد الغزالي رحمه الله إلى أن الأصل في الإنسان أمراض القلوب أن تكون موجودة فيه ولكن الله يذهبها عنه إما بالاجتباء وإما بالاهتداء، فهما أمران الاجتباء اختيار رباني يختار الله به ما يشاء من عباده فيخلصه من الأقدار والأكدار ويصطفيه لنفسه، والقسم الثاني الاهتداء والذي يسلك طريق الحق ويعالج نفسه فيهديه الله، والله تعالى يقول والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا” والسالكون الواصلون قسمان الذين اجتباهم الله فلم يتعبوا أنفسهم وغنما أصلحهم الله دون عناء، والذين جاهدوا أنفسهم وأصلحوها فانتصروا على أنفسهم، قال الله تعالى” ممن هدينا واجتبينا”، ويقول في سورة الشورى”الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب”، الذي يتوب ويعالج نفسه يهديه إليه، والذي يجتبيه الله لا يحتاج إلى شيء من ذلك مباشرة يجد نفسه صالحا مقبلا على الله، مدبرا عمن سواه، فلذلك يختار الله من يشاء من خلقه فيصفيهم من أمراض القلوب ولكن الأصل عند الغزالي وجودها، واستدل الغزالي بذلك بشق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وغسل قلبه وانتزاع المضغة السوداء منه وغسله بطست من ذهب جاء به جبريل من زمزم وحشاه من الإيمان والحكمة قال لو كان أحد ينجو من هذه المضغة السوداء التي هي مرض القلب فكان مثل رسول الله صلى الله عليه، والذي أراه أنه لا بد من الجمع بين القولين والدليلين فنقول الأصل في الإنسان السلامة من الاتصاف بأمراض القلوب والأصل في الإنسان القابلية لأمراض القلوب فالذي أزيل عن الرسول صلى الله عيه وسلم ليس أمراض القلوب فلم تسبق عليه قط، لكن الذي أزيل عنه قابليته لأمراض القلوب وأمراض القلوب مثل أمراض البدن، الأصل في الإنسان السلامة من السل الرئوي والأصل في الإنسان السلامة من السكري لكن الأصل القابلية لذلك والرسول صلى الله عليه وسلم شق صدره وأزيل عنه قابلية للأمراض القلبية، وإن كانت القابلية للبشر كلهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لم نيزل الله داء من السماء إلا وأنزل له دواء فتداووا عباد الله) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (الحديث للوجوب في أمراض القلوب وللندب في أمراض البدن) لكن هذا الذي قاله ابن حافظ لا يسلم بالإطلاق فأمراض البدن بعضها أيضا يجب العلاج منه كما أن يمنع الإنسان من أداء فريضة من فرائض الله يجب عليه أن يتعالج منه، ومن ذلك أمراض القلوب ليست كلها أيضا مما يجب علاجه فأغلبها كذلك ولكن الخفيف منها قد لا يجب العلاج منه.
فرمضان إذن علاج للإنسان من أمراض القلوب وهذا العلاج مركب بين رمضان والقرآن، فجبريل كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان مرة، وليست هذه المدارسة كما يتوهم البعض تأخذ وقتا كمدارستنا نحن بل مدارسة جبريل داخلة في ما بينه الله في قوله “لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأنه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه”، وقد بين الله لرسوله حفظه لهذا القران “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا نحن لحافظون”، فكانت المدارسة سريعة بضمان الله له أن الله يجمعه في صدره وهذا يشمل ألفاظه وحروفه وحدوده ومعانيه وبيانه ومعجزه وكل ما فيه، لكن في العام الذي هو عام موت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان الذي لم يعش بعده، تدارسه معه جبريل مرتين في كل ليلة فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أمرا ما قد حدث ولذلك قال لابنته فاطمة (إن جبريل كان يدارسني القران كل ليلة مرة وفي رمضان هذا دارسني في كل ليلة مرتين وما أظن ذلك إلا أجلي قد اقترب ).
فلذلك ارتبط رمضان بالقرآن وارتبط القران برمضان، وارتبطا معا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد سئلت عائشة عن حلق النبي فقالت كان خلقه القران)، فهو بمثابة قران يمشي على الأرض، ولذلك قال الله تعالى “وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فصلناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا”، وفي سورة الطلاق يقول الله تعالى” ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات مبينات “، فالرسول باعتقاده وبعبادته وبمعاملته وبخلقه بيان للقران، وقد زكاه الله تعالى فقال فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا” وأخلاقه زكاها الله بقوله وإنك لعلى خلق عظيم”، وعبادته ومعاملته يقول الله فيها “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة”، فلذلك ارتبط القران بالرسول صلى الله عليه وسلم وارتبط بهذا الشهر الكريم، فإذا أراد الإنسان أن يحصل له الزكاء في نفسه ويخليها عن صفات المنافقين والمشركين وأن يحليها بصفات المؤمنين فعليه أن يستغل فرصة الموسم العظيم الذي هو شهر رمضان وأن يتدبر هذا القرآن، والتدبر من أجله أنزل القران كما قال الله تعالى كتاب أنزلناه إليك مباركا ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب” وقال ” أفلا يتدبرون القران أم على قلوب أقفالها ” وقال ” أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ” والتدبر قسمان القسم الأول تدبر المعاني وهو في حق الناطقين بالعربية، فمن كان ينطق بالعربية يمكن أن يتدبر ويفهم معانيه فإذا أشكل عليه شيء رجع فيه إلى أهل العلم، والقران حينئذ أربع أقسام :
القسم الأول ما يفهمه كل ناطق بالعربية على وجه السليقة .
القسم الثاني ما هو من غريب اللغة التي لم تعد مستعملة في كلام الناس فيما بينهم.
القسم الثالث ما هو من أدلة الأحكام وتوجه الاستنباط وهذا يختص بالراسخين في العلم أي أهل الأصول.
القسم الرابع ما كان من المشكل والمتشابه وهو خفي الدلالة من القرآن و المرجع فيه إلى أهل الأثر وأهل الرواية.
والقسم الثاني من التدبر هو تدبر المحبة، وهذا لجميع المؤمنين، سواء كانوا من الناطقين بالعربية أو لم يكن يفهم حرفا في العربية، بأن يقول هذا كلام ربي سبحانه وتعالى فيحبه حبا شديدا كحبه لله، فبقدر محبة الإنسان لله تكون محبته لكتاب الله وكلامه سبحانه وتعالى ولذلك كان عكرمة بن جهل عند موته يقلب المصحف على خديه ويبكي ويقول كتاب ربي محبة القرآن، فكل مؤمن أيا كان سواء كان ذكرا أو أنثى كبيرا أو صغيرا عالما أو جاهلا يجب عليه أن يحب هذا القرآن حبا شديدا وهذا حظ غير الفاهمين له من تدبره، فيصلهم منه أنوار وبركات لا حصر لها “يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا يجعل لكم فرقانا” وكم من إنسان لم يكن من أهل هذا الشأن هدي بسبب لحظة تدبر لكتاب الله.
فهذا القران إذن هدى للناس الذين أراد الله بهم الهداية ولذلك قال الله تعالى ” لا ريب فيه هدى للمتقين”وقال “إن هذا القرآن يهدي لتي هي أقوم”، وهو شفاء مع الهدى كما قال الله تعالى “يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين”، لكن لا ينال ذلك إلا مقصده وتدبره فإن البركات والرحمات تتنزل عند تلاوته كما قال الله تعالى وإذا قرئ القران فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون”، فمن استمع له وأنصت فإنه يرحم برحمات الله وبركاته المتنزلة، ويكون نصيبه منها أوفر، وهذا الشهر الكريم ينبغي للمؤمنين أن يأخذوا نصيبهم منه فهو شهر الانتصارات، وقد هيأ الله فيه النفوس لتنتصر والإنسان إذا انتصر على نفسه بترك الشهوات والآثام والمعاصي فان ذلك يسهل له الانتصار في كل جبهة أخرى، فإذا أراد الإنسان أن ينتصر على نفسه فليصلحها أولا ولينتصر عليها أمام الشبهات وأمام الشهوات، فالشهوات لا يقهرها الإنسان إلا بالصبر والشبهات لا يقهرها إلا باليقين، وعندما يجمع الصبر باليقين ينال الإمامة في الدين كما قال تعالى “وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون “، وقد نصر الله المؤمنين في هذا الشهر انتصارات كبيرة منها ما كان يوم بدر وهو يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، ومنه ما كان في فتح مكة، وكانت فيه معارك إسلامية كبرى كعين جالوت وحطين والزلاقة فقد خرج المغاربة مع يوسف بن تاشفين في رمان لنصرة إخوانهم في الأندلس بعد أن جاءه المعتمد بن عبا د مستنصرا مستنجدا فلما دخل الأندلس بجيشه المرابطي أرسل إليه ملك الإسبان فقال اليوم يوم جمعة وهو يوم عيدكم وغدا يوم السبت وهو يوم اليهود، ويوم الأحد هو عيدنا فلذلك نترك القتال إلى يوم الاثنين، وكانت هذه خدعة لم ينخدع لها يوسف بن تاشفين فلبس السلاح تحت لباسه فلما وقف في الناس يخطب الجمعة ثارت الخيل في وجهه فصلى صلاة المسايفة.
الشيخ محمد الحسن ولد الددو