في كلمته التربوية بالمكتب التنفيذي، صبير يستعرض خمس صفات لأهل الإيمان
افتتح لقاء المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح صباح هذا اليوم السبت19 ربيع الآخر 1442هـ الموافق لـ 5دجنبر 2020م،بكلمة تربوية للأستاذ مولاي أحمد صبير رئيس المكتب التنفيذي لجهة الوسط، تناول فيها صفات أهل الإيمان، ونظرا لأهمية هذه الكلمة، وتعميما للفائدة يتفضل موقع الإصلاح بنشرها كما توصل بها:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونومن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
إخواني أخواتي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحمد الله تعالى لكم نعمة العافيةِ والسلامة، وأسأله تعالى أن يشافيَ كل مريض، وأن يرحم كل فقيد، وأن يرفع عنّا وعن البشرية كلِّها هذا البلاء، وأن ينجيَنا من هذا الوباء. آمين
ثم أما بعد؛
عرض القرآن الكريم صفاتِ أهلِ الإيمان في غير ما موضع، وفي سياقات مختلفة من سوره المكية والمدنية، ودعت المؤمنينَ إلى الاتصاف بها حتى يعيشوا حياة سعيدةً في الدار الدنيا، ويفوزوا بثواب الله ورضوانه غدا يوم لقائه.
ولأن المَقام لا يسمح هنا بتتبع كل السياقات التي وردت فيها تلكم الصفات، فإن الإشارة تبقى ضرورية أولا لسورة ” المومنون” التي تبقى هي الأشهر والأطول، والتي بيّن فيها الله عز وجل مجموعةً من الصفات، في أوّل السورة، ومنتصفها وآخرها، وأجملت بيان أنّ الإيمان قَوْل باللسان، وعَمل بالأركان، وتصديق بالجَنان.
كما أن أواخر سورة الفرقان خُتمت بذكر أوصاف تنطبق على أهل الإيمان، وسردت خصالا تتعلق بتعاملهم مع أنفسهم، ومع غيرهم ومع ربهم جلَّ جلاله. فاستحقوا وصف ” عباد الرحمن” وصاروا مثلا أعلى في أخلاق مثلى كالتواضع والحلم والتهجد والخوف وترك الإسراف والإقتار والبعد عن الشرك…..
لكن أحبّ أن أقف معكم ـ بين يدي هذا اللقاء ـ عند مطلع سورة “الأنفال” التي تقدّم مجموعة من الصور المتألقة والصفات المثلى التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون، وتأتي هذه الآيات في سياق نزع الأنفال من الصحابة بعد أن تنازعوا عليها يوم بدر، وردِ أمرها إلى الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، تأتي هذه الآيات بعد هتاف يستجيش الشعور بتقوى الله تعالى والخوف منه وتلمس رضاه في الدنيا والآخرة: ” فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم”، إنها آيات تلخص صفات الإيمان الحق كما يريده الله تعالى في إيجاز معجز لا يتعدى خمس صفات تمّ حصرها بلفظ ” إنما” التي هي أقوى أدوات الحصر في اللغة العربية.
قال عز وجل: ” إِنَّمَا الْمومِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ آيَاتُهُ زَادَتْهُمُ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمومِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) “
ويمكن تقديم هذه الصفات في شكل عناوين كما يلي:
ـ الوجل لذكر الله ـ ازدياد الإيمان عند سماع آياته ـ التوكل على الله ـ إقامة الصلاة ـ الإنفاق مما رزقهم الله.
الصفة الأولى:
الوجل لذكر الله تعالى: إِنَّمَا الْمومِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
والوجل هو الخوف والفزع، أو هو استشعارهما، والمؤمن الحق يأتيه هذا الشعور كلما ذكر الله أمامه، لأنه يستحضر مع هذا الذكر صفات علوية كالقدرة والجبروت والعلم الذي أحاط كل شيء، فيتصور ما هو مطلوب منه اتجاهه، فلا يجد إلا الوجل الذي يدفعه إلى امتثال الأوامر، واجتناب النواهي دون تأخير أو تهاون.وذكر الله يكون : إما بذكر اسمه ، أوبذكر عقابه، أوبذكر رحمته وثوابه، وقد يكون بكل ذلك،فيحصل معه الوجل في قلوب كُمّل المؤمنين، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يُرضيه عز وجل وملاحظة الوقوف عند حدوده في أمره ونهيه، ولذلك روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : ” أفضل من ذكر الله باللسان، ذكر الله عند أمره ونهيه”.
إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكّر بالله في أمر أو نهي، فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته، ويتمثل عظمة الله ومهابته، إلى جانب تقصيره هو، فينبعث إلى العمل والطاعة، فيأتمر وينتهي كما يريد الله تعالى. يقول صاحب التحرير والتنوير:” وأسند الوجل إلى القلوب لأن القلب يكثر إطلاقه في كلام العرب على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه، وليس المراد به هذا العضو الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الشرايين”.
الصفة الثانية:
ازدياد الإيمان عند سماع آيات الله تعالى: “ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ آيَاتُهُ زَادَتْهُمُ إِيمَانًا“
والتلاوة : القراءة واستظهار ما يحفظه التالي من كلام له أو لغيره يحكيه لسامعه. والقرآن الكريم يتعامل مع القلب البشري دون الحاجة إلى وسيط، والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيمانا، إذ سرعان ما يدرك المعاني ، ويستوعب الأوامر، ويفقه النواهي وهو يستمع إلى آياته تتلى، ويجد لكل ذلك وقعا خاصا في كيانه ينتهي به إلى مزيد إيمان، وقوة يقين.
ومن أجمل التعريفات للإيمان قول ابن أبي زيد القيرواني:” الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقص الأعمال فيكون فيها النقص وبها الزيادة “. وللأئمة الأعلام كلام في الزيادة والنقصان مبثوت في مظانه يمكن العودة إليه.
إن الاستماعَ إلى آيات الله، والحرصَ على تدبرها يزيدان العبد المؤمن إيماناً ويقينا ونوراً وبصيرة؛ تحصل بهما الهداية ويزيد بهما الإيمان ويعينان على الفهم والعلم ويدفعان إلى العمل، لأن القرآن جمع من أصول الإيمان ما يَكفي ويَشفي ويُغني عن غيره شريطة أن يلامس قلبا مؤمنا موقنا. قال الحسن البصري رحمه الله: “إن مَن قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار”. وكان يلوممن جعل همه مجرد القراءة فقط، ويقول: “يا ابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همك في آخر سورتك؟”.
هذا هو القرآن وهذه آياته التي تحدث تلاوته انقلابا ربانيا عجيبا في النفوس، وخرقا نورانيا في الملك والملكوت. ويكفي أن نسوق شهادة رجل ذهب بنفس ترفض القرآن وتحارب من نزل عليه، فإذا به يعود وقد أخذت آيات من السجدة بفرائصه وهو يقول: ” واللهِ، لقدْ سمعتُ كلامًا ما هو بالشِّعرِ ولا بالسِّحرِ ولا بالكهانةِ! وإنَّ له لَحلاوةً، وإنَّ عليه لَطلاوةً، وإنَّ أعلاه لَمثمرٌ، وإنَّ أسفلَه لَمغدقٌ، وما يقول هذا بشرٌ”.
الصفة الثالثة:
التوكل: ” وعلى ربهم يتوكلون”
والتوكل عند الرازي: ” إظهار العجز، والاعتماد على غيرك”. والمؤمن كلما تليت عليه آيات الله تعالى، أدرك أن الله عز وجل هو وحده الذي ينبغي التوجه إليه، والاعتماد عليه دون غيره من المخلوقات، فهو يعتقد جازما ألا أحد يرجى سواه عز وجل ولا يقصد إلا إياه، ولا يلاذ إلا بجنابه، ولا تُطلب الحوائج إلا منه عز وجل. وهذا هو التوكل الحق، فقلب المؤمن لا يجتمع فيه توحيد الله تعالى والتوكل على غيره، إنها صورة سريالية لا تنسجم مع حال المؤمن. كما أن التوكل على الله لا يعني الصدّ عن اتخاذ الأسباب، إذ لا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن كما يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله، فشعور المؤمن متحرر من التعبّد للأسباب والتعلق بها، وفي الوقت ذاته، هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.
إن في التوكل على الله مُنتَهى الوَلاء، وشاهق الانتماء، وعظيم الصلة، ورفيع المنزلة، فالمؤمن يتعَب ويُحسِّن، ويُتقِن ويُجوِّد، ويسهَر ويكدّ، ثم يدعو الله أنْ يَقبَلَ، وأن يثمر ويزهر وأن يهَب ويعطي.
الصفة الرابعة:
إقامة الصلاة:“الذين يقيمون الصلاة”
وإقامتها هنا تنقل الإيمان من صورته الشعورية القلبية كما هي في الصفات السابقة إلى صورة عملية واقعية، إن إقامة الصلاة هنا هي بمتابة الدلالة الظاهرة للإيمان التي تحس وترى، وتشهد بوجوده الفعلي والعملي. وإقامة الصلاة لا تتم إلا بحسن أدائها وتحقيق أركانها. وبحسن الأداء وحده تصبح الصلاة معراجا للروح إلى عليين، فترفع صاحبها إلى مقام القرب والوصل مع الصفوة المفلحين، ومن كانت هذه صلاته، وجد فيها نعيم روحه، ولذة قلبه، وصارت قرة عينه، فما عليه إلا أن يداوم عليها ويكثر منها، ويكابد في مضمارها آناء الليل وأطراف النهار،فلن يزداد بها من ربه إلا قربا ووصلا.
الصفة الخامسة:
الإنفاق مما رزقهم الله:” ومما رزقناهم ينفقون”
وغالبا ما ينصرف الذهن عند ذكر الرزق إلى المال، في حين قد يكون هذا الرزق مالا أو علما أو وقتا أو جاها أو صحة وعافية…. إلخ. قال البغوي: الرزق: اسم لكل ما يُنتفع به حتى الولد والعبد، وأصله في اللغة: الحظ والنصيب.
وحتى إذا اعتبرنا الانفاق هنا متعلقا بالمال، فإنه لا ينبغي حصره في الزكاة، بل ينبغي جعله عموم كل نفقةسواء كانت زكاة، أونفقة على الأهل والعيال، أوصدقة تطوع، أووفاءًبحق من الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال عدا الزكاة….وتقديم ” مما رزقناهم” ، قدمه على قوله: يُنفقون، بسبب الاهتمام به كما يقول النحاة، فمن عادة العرب تقديم المُعتنى به وتقديم الأهم على المهم وما إلى ذلك؛ فكلما قدمنا ما حقه التأخير دل ذلك على الاهتمام به، وفضله ومزيته ونحو ذلك.
هذه إخواني أخواتي خمس صفات من مطلع سورة الأنفال، قوّم الله تعالى بها الصحابة بعد الذي حصل منهم يوم بدر من خلاف على الأنفال وفساد ذات البين من جرائها، دون ذكر تفصيلات الإيمان، كما في سياقات أخرى. أسأل الله تعالى أن ينفعنا بها، وأن يسددنا وأن يزكي أنفسنا. آمين.
مولاي أحمد صبير