وانقضى رمضان – عبد الحق لمهى
الحمد لله على إحسانه، وله الشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وخلانه وإخوانه، ومن اهتدى بهديه وتمسك بشريعته إلى يوم الدين.
وبعد: أخبر رسول الله صلى الله عليه وس
لم بما لا يتطرق إليه شك أنه في شهر رمضان ــ شهر الصيام والقرآن الكريم ــ تسلسل الشياطين بأمر من ربها العزيز الجبار، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَنَادَى مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ”.[1] فهي بذلك لا تملك أي سلطان لها تسلطه على عباد الرحمان لغوايتهم وإغرائهم.
إن الله تعالى ــ إذ يأمر بتصفيد الشياطين فيه ــ رحيم بعباده، ورحمته تتجلى في أن كف عنهم شرها ليعينهم على أعمال الصيام المباركة.
إن حبس الشياطين بقوة الله وقدرته خلال رمضان يدل على ما لهذه الشياطين من قوة الإيقاع بالإنسان والرجوع به إلى الخسران المبين. وقد أقسم مولاهم بين يدي المولى عز وجل أن يحتنك عباد الله إلا قليلا ممن أخلص العبادة لله منهم فلا يصلون إليهم بشيء، قال تعالى:”قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا “[2].
هذه الشياطين التي وعد الله عباده أن يصفدها في شهر رمضان يطلق سراحها، ليتحمل العبد بنفسه طردها من ساحة قلبه، لكنها من شدة عداوتها لبني آدم فهي مقبلة عليه بكل وساوسها وإغراءاتها غير مدبرة حتى تفسد على العبد الطائع طاعته.
فكيف السبيل لرد غواية الشياطين بعدما انتهى رمضان المعظم والمحافظة على مكتسباته من الأعمال الصالحة التي تبث الفرحة في قلب المؤمن مرتين؛ عند الفطر ويوم لقاء ربه سبحانه؟
كيف السبيل إلى الاستمرار في الأعمال الحسنة التي دأب عليها المؤمن طوال رمضان؛ من تدبر للقرآن وحفظ لآيه والعمل بأحكامه وغيرها من فضائل الأعمال التي لا تحصى عددا؟
كيف السبيل إلى مواصلة الامتناع عن الشهوات التي حرمها الله تعالى والتي تتخذها الشياطين أوسع الأبواب للوقوع بالعباد في معصية ربهم؟
ماذا يفعل المؤمن لقلبه حتى لا يضعف عن الإنفاق، ويمسك عن العطاء بعد أن تمرن عليه خلال رمضان؟
إنها أسئلة حري بالمؤمن الصادق أن يطرحها على نفسه كلما انتهى رمضان وارتحل، والجواب عليها تفصيلا يستوجب بحثا مطولا لا يتسع له مقام هذه الأسطر، وإنما نجيب بالجملة فنقول: إن الاستمرار على طريق الخير التي كان عليها المسلم في رمضان، والثبات فيها وعليها ــ رغم رجوع الشياطين وقوتهم وكثرتها وجعل نور المؤمن لا ينطفئ مع مرور الأيام ــهو أن يتذكر تذكرا دائبا عداوته الشديدة لعدو أب البشرية آدم عليه السلام قال تعالى” إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ” [3]فما قد يبدو منك أيها العبد من الضعف في السلوك إلى ربك بعد شهر الطاعات والقربات، إنما مصدره تحسس الشياطين لك واغتنامه الفرص لذلك، لا يهدأ لها بال ولا ينام لها جفن حتى يهوي بك من جديد إلى درجة تدسية نفسك بعدما تزكت فيما قبل بأعمال الخير والصلاح في رمضان.
فإذا أيقنت عداوتك معه، كنت على حذر دائم منه ومن مخالطته كما يحذر من افتراس الأسود، فإذا فعلت ذلك طلبنا منك استحضارك ومراقبتك الدائمة لربك المنان الذي أنعم عليك بنعمة سلسلة الشياطين، وما ذاك إلا لمحبته لك، فأحبه محبة تليق بجلال وجهه وعظمة سلطانه، واعمل وسعك في بلوغ رضاه، ومخالفة طريق عدوه وعدوك إبليس اللعين ومن على شاكلته من الخلائق.
والله الموفق للخير والمعين عليه، والحمد لله رب العالمين.
——–
[1] ـ رواه أحمد- حديث رقم: 18817، والترمذي – كتاب الصوم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب مَا جَاءَ فِى فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ، حديث رقم: 682، وابن ماجه – أَبْوَابُ الصِّيَامِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الصِّيَامِ وَفَضْلِهِ حديث رقم: 1642، وابن خزيمة- كتاب الصيام، جماع أبواب فضائل شهر رمضان وصيامه- باب ذكر البيان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أراد، حديث رقم: 1765، بسند صحيح.
[2] ـ الاسراء، 62.
[3] ـ فاطر ، الاية ،6.