الثبات والتعقل عند البلاء – أمال راغوت
تقديم :
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد :
لقد خلق الله الدنيا دار ابتلاء قال تعالى : “الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو الغفور الرحيم” (الملك2)، والابتلاء جزء من طبيعة الحياة البشرية بل هو علة وجود الإنسان، والابتلاء يكون بالشر والخير، بالنعم والنقم، بالسراء والضراء، قال تعالى : “كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون “، (الأنبياء 35)
كما أن الابتلاء قد يكون فرديا أي ما يصيب الفرد في نفسه أو ماله أو عرضهن أو جماعيا كالمجاعات والزلازل والأوبئة.
ولله تعالى في سنة الابتلاء حكم خفية تستعصي عن فهم أكثر الناس بل منها مالا يدركه أحد من خلقه واستأثر الله بها في علم الغيب عنده، ولذلك سمى نفسه ” العليم الحكيم ” لدقة مقاصد ابتلائه، فقد يجتمع في النازلة الواحدة مالا يعد ولا يحصى من الحكم، فهو سبحانه أحاط بكل شيء علما قال تعالى : “الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأرض بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ” (الطلاق 12).
الإحاطة بكل شيء هي إحاطة علم فلا يخفى عليه شيء ولو مثقال ذرة، ثم إحاطة قدرة فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
والناس في استقبالهم لهذه الابتلاءات صنفان : صنف ساخط خائف هلع، وصنف يتلقاها بالرضا والسكينة والطمأنينة وما سنحاول بثه من خلال هذه الكلمة هو كيف نثبت، كيف نتعقل عند حلول البلاء ونزوله؟
أولا : طبيعة خلق الإنسان أنه هلوع
قال تعالى : “إن الانسان خلق هلوعا ” المعارج 19
يقول الطاهر بن عاشور في تفسير الآية : ” الهلع طبيعة كامنة في الإنسان تظهر ابتداء عند شعوره بالمضار ووصف القرآن الإنسان بها فيه لوم على تقصيره بدفع آثارها وتجاوز نقائصها”، وعليه فلا يتحقق تجاوز نقائصها إلا بطرق باب السكينة. لماذا؟ لأن كلمة السكينة ذكرت في القرآن الكريم في مواطن حرجة وفي اللحظات الشديدة وفي وقت الاضطراب : في الهجرة، عند وجود الرسول وصاحبه في الغار، يوم حنين، يوم الحديبية، وكلها لحظات شديدة بلغت فيها القلوب الحناجر، فدفعت السكينة كل تلك الخوالج قال تعالى : ” هو الذي أنزل السكينة في قلوب الذين آمنوا ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم… ” (الفتح 4).
جاء في تفسير إنزال السكينة “إيقاعها في العقل والنفس وخلق أسبابها الجوهرية والعارضة” وأطلق الله سبحانه على الإيقاع فعل الإنزال تشريفا لذلك الوجدان الذي تلقى تلك السكينة، ووجب التنبيه أن السكينة والطمأنينة ليستا بلادة في الحس والعقل وليست مسلك العاجزين والخاملين البعيدين عن الأخذ بالأسباب لكنها سكون في القلب من الاضطراب مع يقظة ووعي بالحال والمآل فهي وقار مع استنفاذ الجهد في مدافعة البلاء ما أستطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا قال الحبيب المصطفى للرجل : “أعقلها وتوكل على الله”
ثانيا: أمور معينة على بث الطمأنينة والثبات عند البلاء
- عقد القلب على الإيمان الحق بالقضاء والقدر امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم موصيا عبد الله بن العباس رضي الله عنهما في حديث “ياغلام …. “، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك” رواه الترمذي فرسولنا هاهنا ينبه إلى حقيقة ويبين أن هذا الشق من الإيمان هو أصل عظيم وبرهان التسليم وإقرار القلب بأن النفع والضر بيد الله يقدره حيثما شاء وكيفما شاء ووقتما شاء … سبحانه سبحانه.
- الصلاة، فالله استثنى من صفة الهلع المصلين ” إلا المصلين ” (المعارج 22 )، أجل المصلون المحافظون على صلواتهم الدائمون عليها، فالصلاة عامل قوي في سكون النفس وطمأنينتها إذ فيها الدعاء والمناجاة وهما سبيلا الثبات والنجاة من الهم والغم ولما كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فهى أدعى أن تكون وسيلة لدفع الجزع والهلع والتعقل والثبات في أشد المواقف حرجا، والطمأنينة بالشواهد الواقعية لهي من أشد ما ينشده الإنسان في حياته وقد يبذل من أجلها النفيس ويقطع من أجلها المسافات يقول ابن حزم “نظرت في الخلق مسلمهم وكافرهم، غنيهم وفقريهم على اختلاف الملل فوجدتهم متفقين في أمر واحد وهو طرد الهموم عنهم والسعي نحو طمأنة قلوبهم والإنسان المؤمن لا يسأل البلاء ويطلب السلامة والعافية لكن إذا نزل بساحته بلاء صبر ورضي واطمأن وسكن قال رسول الله صلى الله عليه سلم “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن فإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر وكان خيرا له “رواه مسلم
- التدبر في العلاجات القرآنية للهم والغم والخوف والمرض أو الضر وكذا مكر العباد
في واحدة من خواطره الإيمانية الرائعة، قال الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله إنه يجب عندما يقرأ كل مسلم القرآن يتصور أنه يسمع الله يتكلم، ويلغى المتكلم الواسطة.
وأشار الإمام إلى قول الإمام جعفر الصادق: عجبتُ لمن خاف ولم يفزع لقوله تعالى : “الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ” آل عمران 173، فإني سمعت الله بعقبها يقول: “فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم “(آل عمران 173 ).
ويشرح الإمام الشعراوي هذا الجزء قائلاً : الواضح هنا قوله ” سمعت الله يقول ” .. ولذلك أعطي ”الوصفة ” الخاصة بعلاج الخوف وهي لأن كل ما يخيفك هو دون قوة الله، ولذلك تقول فيما يخيفك “حسبنا الله ونعم الوكيل “
ثم أكمل : وعجبتُ لمن اغتمّ، ولم يفزع إلى قول الله سبحانه :” لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” (الأنبياء 87)، فإني سمعت الله بعقبها يقول : ” فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك نجزي المؤمنين ” (الانبياء 88 ).
ولنتأمل قوله من البداية “وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المومنين “(الأنبياء 87 -88)
إن الغم الذي وقع فيه سيدنا يونس لم يتعرض له أي إنسان فوق الأرض – ظلمات ثلاث – ورغم ذلك استنجد بالسميع العليم فأجابه ونجاه.
وعجبت لمن مُكر به ، ولم يفزع إلى قول الله سبحانه ” وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد” (غافر 44 )، فإني سمعت الله بعقبها يقول:” فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب” (غافر 45).
أجل إنه القرآن الذي بين أيدينا استمعنا له سنوات وتلوناه سنوات ولكن في الأزمات وجب أن يقرأ قراءة متبصرة قراءة القلب والجوارح إذ هكذا جيل صحابة رسول الله كانوا يقرؤونه ويعيشون معه ويعيشون مع جلال الله وكمال الله، أجل الله سبحانه الذي سمى نفسه الكفيل والكافي والحفيظ فيثبتون بآياته قلوبهم وكذا بأسمائه وصفاته.
ختاما
إن الإنسان وهو يكابد أحوال الحياة الدنيوية ويصارع أمواجها وابتلاءاتها سواء كانت خيرا أو شرا لهو في أمس الحاجة إلى تلمس أسباب الثبات والتعقل حتى يجابهها وتمر معه بسلام وحتى يبقى موصولا بحبل الله لا بحبل سواه لأن البلاء لا يسلطه الله إلا ليجعل النفوس تفزع إليه وتفر إلى جنابه وتنطرح على أعتابه، فاللهم نسألك حسن الإيمان بك والتوكل عليك وتفويض الأمر إليك اللهم اشغلنا بك واشغلنا بذكرك فأنت القائل سبحانك : “الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ” (الرعد 28).
ولله الحمد والمنة.