كلمة تربوية للدكتور محمد عز الدين توفيق في افتتاح الدورة الأولى لمجلس الشورى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،
أيها الإخوة الأعزاء والأخوات الفاضلات:
يلتئم جمعنا هذا وينعقد مجلسنا هذا في يوم من أيام شهر ربيع الأول، شهر المولد النبوي الشريف، فالذكرى تظللنا، والمناسبة تبسط أنفاسها على لقائنا وذلك أن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم تؤصل لهذا اللقاء، لقد كان عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه وربّما سهر بالليل مع أبي بكر وعمر في أمر المسلمين وتعلّم منه أصحابُه أنه إذا كان في المسألة وحيٌ فهولا يتقدم عليه ولا يتأخر، وإذا لم يكن اجتهد للمسلمين وشاورهم وأخذ بما أشاروا به.
كانت المشاورة طبعا من طِباعه وخُلقا أصيلا من أخلاقه صلى الله عليه وسلم وقد حصل من مشاورته لأصحابه من الأفكار الصالحة والآراء النافعة ما كان خيرا وبركة للمسلمين.
نجتمع في هذه الدورة الأولى لمجلس الشورى مستحضرين ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق، وإنا لنراه لهيبته وجلال قدره صلى الله عليه وسلم يجتمع مع أصحابه في المسجد أو في البيت أو في السفر أو في غيرها من الأماكن يعرض الأمر الذي يريد أن يشاور فيه ويفسح المجال لمن يريد أن يتكلم فينصت ويسدّد ويقارب ويعزم ويقرّر، وأهل مشورته هم أصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا به واتبعوه وتشرّفوا بمجالسته ومصاحبته كما قال تعالى عنهم: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(الشورى 38).
وترك صلى الله عليه وسلم بهذا هديا هو خير الهدي يُغلق الباب في وجه التحكم والاستبداد وفرضِ الرأي بالقوة وفي وجه الانتصارِ لمذهب فرعون.. (مَا أُرِيكُمُو إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمُو إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)(غافر 29).
وإننا لنرجو بالذي نفعل الآن أن نكون على أثره صلى الله عليه وسلم وأن نهتدي بهديه ونستنّ بسُنّته، بما يلائم عصرنا ويناسب زماننا، فالجوهر عندما نقدم أوراقا للمصادقة أو نعرض خططا للمناقشة ونتناوب على الكلام واحد، والمظهر بيننا وبين أولئك الصحابة بالتأكيد يختلف؛ لكن العبرة بالجوهر لا بالمظهر ولو فرضنا أنّ هذا النبي الكريم دخل علينا ورأى ما نفعل وسألناه وصيّة أو نصيحة ما زاد على ما كان يقول للأمة عندما كان حيّا بين أظهرها؛ لقد كان يأمر المسلمين بالألفة وينهاهم عن الفرقة، ويوصيهم بالتحابب والتراحم والتعاطف وينهاهم عن التباغض والتنافر والتقاتل وَمِمَّا يحقّق ذلك أن يتشاوروا فيما بينهم في كل ما هو مشترك…
أيها الإخوة والأخوات
بما أن الذكرى التي تحف مجلسنا هي ذكرى المولد النبوي وهي ذكرى تحيلنا على سيرة غنية بالدروس فإننا نستدعي من هذه السيرة في هذا المقام منهجا كان عليه الصلاة والسلام يستعمله مع أصحابه لحضهم على المزيد من الحزم والاجتهاد وهذا المنهج تعلّمه صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم لأن الله تعالى عامله به. فهذه سورة الضحى وسورة الشرح كل منهما تخاطبه وحده؛ ففي سورة الضحى قال عز وجل له: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (الضحى 6 – 8) وفِي سورة الشرح قال: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح 1 – 4).
فلنتأمل هذه الصيغة الاستفهامية المبدوءة بقوله تعالى ألم ألم مما لا يسع المخاطَب إلا أن يقول بلى بلى.
وبعد أن ذكره بنعمة الله عليه قال له سبحانه في سورة الضحى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(الضحى 9 – 11). وفِي سورة الشرح قال له: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(الشرح 7 – 8).
نحن بحاجة إلى تطبيق هذا المنهج القرآني النبوي لنعلم عِظم المسؤولية التي في رقابنا.
الله سبحانه وتعالى خلقنا من عدم وهذه نعمة، وجعلنا من بني آدم وهذه أعظم من الأولى، وجعلنا في بني آدم من المسلمين وهذه أعظم من الثانية، وتفرّعت عن هذه النعم الثلاثة نعم كثيرة لا نحصيها.
ألم يكن أحدنا في بادئ الأمر من عموم المسلمين فشرح الله تعالى صدره للإيمان وأقبل على نفسه فأصلحها وأقبل على إسلامه فحسّنه بالعلم والعمل وصار شيئا فشيئا يتميّز بين المسلمين.
ألم يكن في بادئ الأمر غافلا عن أمر الدعوة حتى هيّأ الله تعالى له مَن أعانه على الانخراط في سلكها والهجرة إلى مواقعها وثغورها وارتقت روحه فقدمها على غيرها.
الم نكن جميعا مبتدئين في طريق الدعوة فصارت لنا بعد خبرة واجتمعت لنا تجربة وهذا المجلس ثمرة من ثمراتها.
ما منا من أحد إلا وهو اليوم في وظيفة أو مهمة أو عمل لم يكن فيه… ناهيك عن الاستقرار العائلي والمهني والتقدير الاجتماعي وسائر ما يطمح إليه الناس ويسعون للوصول إليه.
لنقرأ سورة الضحى وسورة الشرح في ضوء هذا لنعلم أن المسؤولية على قدر النعمة.
فليس الغني كالفقير، وليس الوجيه كالحقير، وليس العالم كالجاهل وليس الصحيح كالمريض وليس البصير كالكفيف، وليس الذي أطال الله عمره كالذي مات صغيرا وليس الآمن كالخائف، وليس المستوطن كالمشرد، وليس الحر كالسجين وقس على هذا.
فالناس يتفاضلون في النعم فتختلف محاسبتهم يوم القيامة فإذا تركنا أنفسنا ونظرنا إلى الوطن الذي نعيش فيه ونعمل فيه عظمت النعمة فعظمت المسؤولية فقد اختار الله تعالى لنا وطنا له مميزاته بين الأقطار جغرافيا وتاريخا وسكانا مما يعين على مهمتنا.
عقدنا مؤتمرا عاما مرت أشغاله في ظروف حسنة وخرجنا منه برئيس ومكتب تنفيذي ومجلس شورى وهو الآن يعقد أولى لقاءاته لا يشغلنا فيه إلا جدول أعماله بينما يجري في أقطار أخرى ما نعلمه جميعا حتى تجاوز الأمر في بعضها الاعتقالات التعسفية بلا محاكمة إلى إحياء فعل تعرض له أتباع عيسى بن مريم نشروا بالمناشير وصلبوا على الخشب…
فإن العافية تعطي فرصا للعمل هي التي تضاعف المسؤولية
لَحَا اللهُ مَلآن الفؤاد من المنى إذا ما أتته فرصة لا يشمّر
تردد فيها حتّى فات طلابُها فأصبح في إِدبارها يتدبّر
أيها الإخوة والأخوات
ما من مجلس يجلسه جمع من المسلمين إلاّ وله على أهله حق وهذا المجلس له حق قبل المجيء إليه وحق عند حضور أشغاله وحق بعد الانصراف منه.
فأما حقه قبل المجيء إليه فالاطلاع على الوثائق المعروضة وتأكيد الحضور إلاّ من عذر واستشعار المسؤولية بالعضوية فيه، وأما حقه أثناء انعقاده فهو متابعة الأشغال وحسن الإنصات وحسن الحديث ولين الجانب وصدق النية، وأما حقه بعد الانصراف منه فالعمل على تنزيل ما صدر عنه بحسب الوسع والإمكان.
إن من فضل الله تعالى علينا هذه الطريقة التي نعمل بها؛ فإننا نترك للمكتب التنفيذي أمورا ونجمع مجلس الشورى لأمور، وأمور لا بد من عرضها على الجمع العام.
أيها الإخوة والأخوات
إذا كانت أوضاع بلدنا عموما تتيح فرصة للدعوة وندعو الله تعالى أن تسير نحو الأحسن فإن هناك مدخلا يمكن أن تتضرر دعوتنا منه ولا يكون ذلك بسبب تقلب أوضاع البلد وإنما يكون بسبب أقوال وأفعال الحركة؛ فقد تكون الوضعية القانونية سليمة والمقرات مفتوحة والخطط والبرامج مستقرة وكل شيء من الناحية الخارجية طبيعي ولكن سمعة الحركة وشعبيتها تتراجع وحينئذ ماذا يفيد الترخيص القانوني أو وجود المقرات …؟
هذه السمعة وهذه الشعبية يبنيها أبناء الحركة كما أنهم هم من يهدمها.
لذلك ينبغي أن يُعلم بأن أبناء الحركة الإسلامية كلّهم أشخاص عموميون الواحد منهم رجلُ عامّة خاصةً إذا كان في موقع المسؤولية وأقواله المعلنة وأعماله الظاهرة لا تنفصل عن الحركة التي يمثلها ولو قال للناس إن الحركة شيء والعضو شيء آخر. وعندما يكون الرجل رجل عامة توسعت في حقه الممنوعات وصار مطالبا ليس باجتناب الحرام البين بل أيضا اجتناب الشبهات ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
وقد تكلم العلماء المتقدمون عن هذه الوضعية أو عن هذه الحالة التي نحن فيها:
قال علي بن أبي طالب: مروءة الرجل حيث يضع نفسه.
وقال ابن العربي: ضبط المروءة مما عسر على العلماء، والضابط أن لا يأتي أحدٌ منكم ما يتعذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل.
وقال بعض الشعراء:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها هوانا بها كانت على الناس أهونا
قال الماوردي في أدب الدنيا والدين: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبعد الخلق من الريب وأصونهم من التهم وقف مع صفية أم المؤمنين ذات ليلة على باب المسجد يحادثها وكان معتكفا؛ فمر به رجلان من الأنصار فلما رأياه أسرعا فقال لهما على رسلكما إنها صفية فقالا: سبحان الله أو فيك شك يا رسول الله؟ فقال مه إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى لحمه ودمه فخشيت أن يقذف في قلبكما سوءا قال الماوردي فكيف من تخالجت فيه الشكوك وتقابلت فيه الظنون. فهل يَعرَى في مواقف الريب من قادح ولائم فإذا استعمل الحزم وغلَّب الحذر وترك مواقف الريب ومضان التُّهم لم يختلج في نزاهته شك ولم يقدح في عرضه إفك …
على أن للمروءة وجه آخر وهو العفو عن الزلات والمسامحة في الحقوق فلا أحد مبرّء من السهو والزلل ولا أحد سلم من نقص أو خلل، قال بعض الحكماء لا تقطع أخاك إلا بعد العجز عن استصلاحه، وقال آخر: التثبت نصف العفو، وقال ثالث: دواء المودة كثرة التعاهد وقال رابع: الهفوة إن كان لها مدخل في التأويل فاحملها على أجمل تأويل. وقال خامس: شفيعُ المذنب إقرارُه وتوبتُه اعتذارُه.
قال الشاعر:
فَلَو كان سهما واحدا لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث
فمسؤوليتنا حماية الموجود واسترجاع المفقود وتنمية العمل وتطويره كمّا وكيفا والحذر عليه من الأقوال والأفعال التي تضعف الشعبية وتخدش السمعة والله المستعان.
أيها الإخوة والأخوات
لا بد في آخر هذه الكلمة أن نقول أن اجتماع مجلس الشورى ليس مقصودا لذاته وإنما هو إحدى الوسائل المبلّغة للغاية؛ والغاية هي إنقاذ الناس من النار فإن أوّل ما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قال: أنقذوا أنفسكم من النار فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئا والله تعالى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)(التحريم 6)، وهنا نستحضر الإطفائي الذي يقوم بمهمة مزدوجة: يُخمد النيران وينقذ الناس ويخرجهم منها.
إن هذا الإطفائي يتم تأهيله بمعلومات نظرية وتداريب عملية ويُزوَّد بأدوات فيها لباس وخوذة وقناع وأدوات إطفاء أهمها الماء، فإذا شبّ حريق وحاصر الناسَ هل يكون هذا الإطفائي في إجازة أم يكون في استنفار وإذا احترق الناس واحترقت ممتلكاتهم بسبب تهاونه هل يترك أو يحاسب؟
إن الناس ينتظرون من الدعاة إلى الله أكبر مما ينتظره هؤلاء المحاصرون بالنيران وإننا نعلم أن الإسعاف في الحالات الحرجة يحسم الأمر بالثواني والدقائق.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل هذه الجناذب والفراش يقعن فيها وهو يدبها عن النار وتأبى إلا الوقوع فيها يدفعها يميناً ويسارا وربما حبس بعضها وربما أفلتت أخرى ووقعت في النار فاحترقت لأنها ترى ضوءا وتتجه إليه لا تعلم أنها إذا اقتربت منه ستحرق قال عليه الصلاة والسلام: وأنا آخذ بحُجَزِكم عن النار وأنتم تتقحمون فيها.
لقد رأيت هذه الأيام بعض الفيديوهات عن النيران التي أحرقت مساحات واسعة من ولايات كاليفورنيا ورأيت صورا مُرعبة عن الناس وهم يستغيثون وينتظرون فرصا للنجاة ينتظرون هذا الإطفائي ليخمد النيران ويسمح لهم بالخروج إلى مكان آمن.
إن نيران الآخرة أشد من نيران الدنيا وإن أولياء الشيطان في كل زمان يوقدون هذه النيران ويزجون بالناس فيها. والدعاة إلى الله يطفئونها وينقذون الناس منها أفتراهم يجدون وقتا للدعة والراحة والمجرمون المخربون يوقدون ويؤججون.
أي النارين أولى بالإطفاء وأي الضّحايا أولى بالإنقاذ؟
والخلاصة: أننا أمام أمر لا يعين عليه إلا الله تعالى.
فاللهم أعنا على ما ولينا من هذه المسؤولية … واجعلنا سببا لهداية الناس وأنقذهم بِنَا من النار، اللهم أجرنا من النار. وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار.
والحمد لله رب العالمين.
د. محمّد عز الدّين توفيق
افتتاحية تربوية لمجلس الشّورى المنعقد يومي 24 و 25 نونبر 2018