الهوى والإيمان – الزهرة الكرش
الهوى كلمة قليلة الحروف شديدة التأثير على النفوس والقلوب ومجريات الأمور. أنت تميل مع نفسك حيث مالت غير آبه بمآلات الأمور وعواقبها، تطلق العنان لها دون قيد أو شرط وتطلق العنان لشهوتك دون وازع أو ضابط، فتغيب أنت ويبقى هواك يقودك إلى حيث شاء.
في محراب الهوى تضيع مقود نفسك وتفقد السيطرة عليها، وفي محرابه يغيب نور عقلك وتنطفئ بصيرتك فيمضي هواك حيث شاء وأنت تتبعه لأنك ضللت الطريق إلى كهف إيمانك، فلا عاصم لك اليوم من هواك إلا أن تستدل على كهف نجاتك وتعود أدراجك لتستدفئ من أنواره وإلا تحول هواك من مجرد محرك للميولات إلى إله تأتمر بأوامره وتسير على نهجه (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) {الجاثية الآية 23}. فمتى فقدت البوصلة وضيعت إلهك الحقيقي تمكن منك هواك وتأله عليك، تتأله عليك شهوتك فتجرك إلى الأرض جرا، وتتأله عليك نفسك فتهبط بك من علياء السماء إلى دنو الأرض وتتأله عليك أفكارك فتسبح بك في بحر الضياع.
يتأله عليك هواك ويهوي بك في المزالق فتضل الطريق (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) {سورة ص الآية 26} وتتيه في الدروب، دروب الشهوة والملذات، دروب حب التحكم والتملك، دروب الجشع والظلم، دروب الكبر والتعالي على خلق الله بل ودروب الضياع أيضا. يتأله عليك هواك فتتيه نفسك عن نفسها فأنى لها أن تجدها في الزحام والظلمة، يتأله عليك هواك فتصير له عبدا تتفنن في عبادته والتذلل له والانصياع لأوامره .
وتعود إلى نفسك يوما تسألها ما السبيل للعودة وكيف أستطيع الصعود وقد غرقت قدماي في وحل الشهوات وغرق فكري في وحل الشبهات وهيهات هيهات ان أجد سبيلا للارتقاء.
لا عليك!! قد تكون تهت عن الطريق وضيعت الأمانة ولكنها ليست النهاية فقد تكون البداية، بداية عهد جديد وثوب جديد وإسلام جديد بل وإيمان جديد (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى){النازعات:40-41}. فالبداية تكون بإكبار الله وتعظيمه بالقلب والعودة والإنابة إليه جل في علاه فهو سبحانه النور (الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ){النور الآية 35} فمتى ما غمرت أنواره قلب عبده إلا وعرف هذا الأخير مقام ربه جل جلاله فلا سلطان بعدها لنفس أو هوى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى). تكبر الله في قلبك(الله أكبر) فيتعالى عمن سواه وترفع درجاتك عنده فترتقي، ترتقي في سلم القرب منه سبحانه وترتقي في دنيا الناس وترتقي في جنات النعيم(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
فهذا يوسف عليه السلام الشاب الحسن الخلق والخلق جميل المحيا تعشقه سيدة ملكت الجمال والمال ورجاحة العقل والمكانة الاجتماعية المرموقة، وفي مشهد مهيب مرعب ليوسف العفيف ذو الخلق الرفيع تعرض نفسها عليه طائعة مسلمة وهي مربيته وسيدته ومالكة أمره (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ){يوسف الآية 23}.
فتنة عظيمة يتعرض لها سيدنا يوسف عليه السلام (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) فهل يتبع هواه وسطوة شهوته وهو شاب كباقي الشباب وللشهوة حكمها عليه أم يختار الطريق الصعب، طريق المقاومة (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ){يوسف الاية23} ويرفض يوسف العفيف الطاهر الخضوع والاستسلام في مخالفة صارخة لهوى النفس، فيها درس لكل شاب وشابة بأن العفة قرار واختيار قبل أن تكون توفيقا ربانيا (مَعَاذَ اللَّهِ)، معاذ الله أن أستسلم لهوى نفسي، معاذ الله أن أخون الأمانة، معاذ الله أن أكون خانعا ضعيفا مستسلما لنداء شهوة في لحظة قد تكون الفاصلة فأخسر ديني ودنياي، معاذ الله أن أكون من القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا غيرهم، يرفض يوسف عليه السلام خيانة سيده الذي أحسن إليه (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) ويرفض الظلم فخيانة الله ظلم وخيانة من رباه ظلم.
رقي كبير يظهره سيدنا يوسف عليه السلام في موقف قد يضعف فيه أعتى الرجال، فماذا يكون جزاؤك يا ترى (قالت ما جزاءُ مَنْ أراد بأهلكَ سوءًا إلا أن يُسجنَ أو عذابٌ أليمٌ) {يوسف 25} فيجيب العفيف عليه السلام (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) {يوسف 33} يختار سيدنا يوسف السجن على الاستسلام، سجن يحرره من هواه ويصرف عنه المكائد، سجن يحبس فيه الهوى وشهوة النفس فيفقدهما كل الأسلحة المتبقية في حوزتهما، سجن عليك الهروب إليه كلما غلبتك نفسك واستعلى هواك، سجن تجد فيه نفسك التي تاهت منك فتكتمل إنسانيتك.
وتعلم سحرة موسى ما لم يكونوا يعلمون ولكنهم اتبعوا هواهم الذي تجسد في فرعون ( وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ{الأعراف 113_114}، جمع سحرة فرعون بين حبهم للمال (إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا) وحبهم للسلطة والتقرب من الحاكم لأنه يخول لهم الحصول على صلاحيات خاصة، فما بالكم إذا كان فرعون من يعطي هذه الصلاحيات (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).
وفي لحظة يبرز لهم الحق جليا، فمعرفتهم بتخصصهم مكنهم من التمييز بين الخداع والحقيقة، بين السحر والمعجزة الإلهية، وتغلب سحرة فرعون على هواهم واختاروا سجن الإيمان والتوحيد والحق مع المحنة و العذاب، ففيه طمأنينة وسكينة وسلوى، ولا سلطان فيه للمناصب والأموال. لقد تلألأ نور الإيمان في قلوبهم فما عادوا يحرصون على شيء حتى أنفسهم هانت أمام ما رأوه من الحق ( لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ){طه 72_73} وبذلك يضع سحرة فرعون حدا للهوى ويقطعون عليه الطريق فما أصبح يحركهم أكبر منه وأقوى، وبذلك قويت عزيمتهم وثبتوا على الحق رغم التعذيب والتنكيل الذي لاقوه من فرعون.
لقد تحرر سحرة فرعون من أهواء أنفسهم حين آمنوا (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا) إيمان بلغ الذروة حتى باعوا الأنفس والأموال فوحده الإيمان يستطيع إحداث هذا التحول الجذري، هذا التحول العظيم من أقصى اليسار الى أقصى اليمين ففي لحظات تحول سحرة فرعون من قمة الكفر إلى قمة الإيمان، في لحظة باعوا الدنيا وزخرفها واختاروا جوار ربهم، وحده الإيمان قادر على صنع التحول، وحده الإيمان قادر على تخليصك من سطوة الهوى، إنه التحول من الظلمة إلى النور (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )، المائدة/15-16 نور لا يراه من عميت بصيرته واتبع هواه (فإن لمْ يَسْتجيبُوا لكَ فاعْلمْ أَنَّمَا يَتَّبعُونَ أهْوَاءهُمْ وَمَنْ أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ (القصص:50). يقول إبراهيم بن أدهم رحمه الله: “الهوى يُردي، وخوف الله يَشفي، واعلم أنَّ ما يزيل عن قلبك هواك أن تخاف من تعلَم أنه يراك” رواه البيهقي في شعب الإيمان (876).